المكاسب والخسائر فى شراكة رأس المال مع الشركات الدولية
مصطفى كامل السيد
آخر تحديث:
الإثنين 25 يناير 2010 - 9:41 ص
بتوقيت القاهرة
يثير النزاع الذى لم يحسم بعد بين شركة أوراسكوم تيليكوم وشركة فرانس تيليكوم تساؤلات عديدة حول مصير التعاون بين الشركات المصرية ورأس المال الأجنبى، ويدعو إلى تقييم هذه التجربة ليس بهدف العدول عنها، ولكن لاستخلاص بعض الدروس المهمة منها حول كيفية التعامل الأفضل مع هذه الكيانات الدولية العملاقة على نحو يعظم أولا من الفوائد التى يحصل عليها ألرأسماليون المصريون والاقتصاد المصرى بصفة عامة ويقلل من مخاطر هذا التعاون الاقتصادى والسياسى والاجتماعى.
ولا ينبغى أن ينصرف القارئ عن هذا المقال إذا كان ممن يضيقون بالحديث عن الاقتصاد، ففى الواقع هذه قضية سياسية من الطراز الأول، فالسياسة وفقا لتعريف شائع لها هى عملية تخصيص الموارد، وقد يرى البعض أن الحديث فى السياسة يكتسب جديته فقط عندما يتعلق بتوزيع الموارد أيا كانت بشرية أو مادية أو مالية، والصراع السياسى هو فى حقيقة الأمر صراع على هذه الموارد بما فى ذلك السلطة السياسية نفسها، فهى فى حد ذاتها ركيزة مهمة للقوة السياسية، كما أنها وسيلة للحصول على الثروة فى مصر وفى غير مصر.
وليس التعاون بين أوراسكوم تيليكوم وفرانس تيليكوم أمرا فريدا، بل إنه ينتمى إلى فئة واسعة من العلاقات التى دخلت فيها الشركات الدولية فى دول الشمال مع شركات خاصة وعامة فى دول الجنوب، وقد تعاملت دول الجنوب مع هذه الشركات الدولية بطرق مختلفة، فمنها ما ترك لها قدرا واسعا من الحرية، وكان ذلك هو النمط المتبع فى دول أمريكا اللاتينية، ومنها ما حاول بقدر الإمكان أن يخضعها لأولويات وطنية، وأن يجتهد للحفاظ على السيطرة الوطنية على الاقتصاد، وهذا ما حاولته كوريا الجنوبية قبل أزمتها المالية فى صيف 1997، وما تتمسك به الآن كل من الصين والهند، ولكل من هذين الأسلوبين نتائجه المتميزة.
وقبل أن نتعرض للنتائج التى يمكن أن تترتب على مثل هذه العلاقات بين رأس المال الخاص أو العام المحلى فى دول الجنوب ورأس المال الدولى، فمن المفيد التمييز بين هذا النوع من العلاقات والدور الذى قامت به الشركات الأجنبية فى التاريخ الاقتصادى لدول الجنوب، وخصوصا خلال الفترة الاستعمارية.
هذا النمط الجديد من العلاقات بين الطرفين يتميز عن ممارسات الماضى فى أنه ليس مفروضا على دول الجنوب، بل على العكس تسعى حكومات هذه الدول وشركاتها العامة والخاصة إليه ليس لأن قادة هذه الدول وأصحاب الشركات الخاصة ومديرى الشركات المملوكة للدولة قد أصبحوا جميعا عملاء لما يسميه الماركسيون الاستعمار الجديد، ولكن لأن مثل هذه الشراكة يمكن أن تحقق لهم ولدولهم مصالح شتى، فهى توفر لهذه الدول قدرا من رأس المال الذى قد تعجز مدخراتها عن توفيره، وتتيح لها الوصول إلى تكنولوجيات متقدمة كانت ستستغرق وقتا طويلا قبل أن تطورها اعتمادا على قدراتها الذاتية، وتسمح لها بالنفاذ إلى أسواق دولية تملك الشركات الدولية سيطرة مؤكدة عليها. وعلى العكس من النمط القديم لوجود الشركات الأجنبية فى دول الجنوب فى فترة الاستعمار عندما كانت استثماراتها تنحصر فى قطاع الإنتاج الأولى، فقد أصبحت الشركات الدولية لا تمانع فى أن تساعد دول الجنوب على الدخول فى النشاط الصناعى. ولذلك يجد رجال الدولة فى بعض مجتمعات الجنوب أن هذا النوع من الشراكة قد يسهل انتقال بلادهم إلى مصاف الدول الصناعية الجديدة.
بل إن الترحيب بمثل هذه المشاركة لا يقتصر على كبار رجال الدولة والشركات الخاصة والعامة، ولكنه يمتد إلى قطاعات عريضة من الطبقة المتوسطة التى يجد بعض أعضائها من المهنيين مثل المهندسين والمحاسبين وغيرهما فى هذه الشراكة فرصا للتمتع بدخول أعلى وبظروف عمل لائقة، بل وتجد هذه الشراكة أيضا تأييدا لها فى أوساط قسم من الطبقة العاملة الذى يجد أوضاع العمل فى الشركات المشتركة أفضل بكثير مما يجد فى معظم الشركات المحلية الصرف. هذه الشراكة تحقق أيضا مصلحة أكيدة للشركات الدولية التى تحصل منها على أرباح تفوق ما تحصل عليه فى بلادها، وقد تضمن لها ميزة تنافسية أفضل فى مواجهة منافسيها من الشركات الأخرى إما بسبب القرب من الأسواق، أو بسبب تخفيض نفقات النقل، أو الوصول إلى مصادر طاقة أو عمالة أرخص. وقد تكيفت الشركات الدولية مع الوضع الجديد الذى نتج عن استقلال دول الجنوب عن السيطرة الاستعمارية، وتطلعها إلى تحقيق تنميتها الاقتصادية من خلال التصنيع، ومن ثم أصبحت هذه الشركات لا تمانع، بل وتسعى إلى نقل بعض حلقات إنتاجها الصناعى إلى دول الجنوب، على نحو أثار قلق بعض حكومات الشمال للتأثير السلبى الذى يلحقه ذلك بمستوى العمالة فى دول الشمال، كما تسعى هذه الشركات للدخول فى شراكة مع مشروعات خاصة أو مملوكة للدولة فى دول الجنوب، ولا تسبب هذه الشراكة أى قلق لإدارات هذه الشركات طالما أنها تحتفظ بتفوقها فى مجال البحث والتطوير، ومن ثم فهى تحتفظ بالفروع المتقدمة فى الصناعة ومراكز الابتكار فى دول الشمال، كما أن الشراكة مع المشروعات الخاصة أو العامة فى دول الجنوب تعفيها من الاتهام بأنها تنتهك سيادة هذه الدول، أو أنها صورة لاستتعمار جديد.
تقييم الشراكة
ومن المؤكد أن هذا النمط من الشراكة قد حقق فوائد جمة لأطرافها الثلاثة، فقد استمرت الشركات الدولية فى جنى الأرباح من نشاطها فى دول الجنوب، ولم يعد وجودها خلف الأطراف المحلية يثير حساسيات سياسية أو اتهامات بالتدخل فى شئون هذه الدول، وقد أتاحت هذه الشراكة للشركات الخاصة فى دول الجنوب اتساعا فى حجم إنتاجها ونفاذا إلى الأسواق الدولية، واغتبطت الحكومات التى سهلت هذه الشراكة، وكانت عنصرا أساسيا فيها من خلال الشركات المملوكة للدولة، لأنها نجحت فى زيادة حجم إنتاجها الصناعى، وأدخلت صناعات جديدة، ونفذت بصادراتها إلى الأسواق الدولية، وحققت تحولا اجتماعيا لا ينكر مع نمو الطبقة العاملة الصناعية وتعزيز مكانة أقسام كبيرة من الطبقة المتوسطة المهنية، وذلك بطبيعة الحال مع ارتفاع معدل نمو الناتج المحلى الإجمالى وتحول الاقتصاد من الاعتماد على إنتاج وتصدير المواد الخام إلى وضع الاقتصادات الصناعية الجديدة.
ولكن هذا النمط من الشراكة له أيضا تكلفته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فمن الناحية الاقتصادية لا تقترن هذه الشراكة بالضرورة بتدفقات هائلة لرءوس الأموال الأجنبية، فقد لا تستلزم الشراكة من الشركة الدولية تحويل قدر كبير من النقد الأجنبى، فقد تكون حصتها هى مقابل السماح باستخدام اسمها التجارى، أو مجرد نسبة فى رأس مال الشركة المشتركة، أو مجرد خدمة ما بعد البيع، ويمكنها أيضا التعويل على الاقتراض من البنوك المحلية، ولكنها فى المقابل تستمر فى جنى الأرباح والفوائد ورسوم استخدام التكنولوجيا أو اسمها التجارى، ويعنى ذلك أن تفقد الدولة النامية جانبا كبيرا من مواردها فى صورة تحويلات إلى الخارج تترتب على هذا النوع من الشراكة، ولذلك يمكن أن تؤدى هذه الشراكة إلى توليد عجز فى موازين مدفوعات الدول النامية الداخلة فيها، ولذلك لا يملكنا العجب عندما نعرف أن أكبر المديونيات فى دول الجنوب هى تلك التى تحملتها الدول التى عرفت هذه الشراكة مثل المكسيك والبرازيل والأرجنتين وإندونيسيا وحتى كوريا الحنوبية، ومن ناحية ثانية تزاحم الشركات الدولية الشركات المحلية المتوسطة والصغيرة فى الحصول على التمويل المحلى، كما تضيق من فرص تطوير تكنولوجيات محلية بسبب نمو الاعتماد على التكنولوجيات المستوردة التى تقدمها هذه الشركات الدولية. ومن الناحية الاجتماعية تجتذب هذه الشركات العناصر الطموحة والمتميزة من الطبقة المتوسطة ومن الطبقة العاملة بسبب الرواتب والأجور المرتفعة التى توفرها، ومن ثم لا يبقى فى القطاع «الوطنى» سوى العناصر الأقل طموحا وتميزا والتى لات جد لها مكانا تحت شمس هذه الشراكة. ولا يقتصر الأمر على مجرد فوارق فى مستويات الدخل بين القطاعين، وإنما يتسم كل قطاع بثقافته الخاصة، العاملون فى قطاع الشراكة ينظرون إلى الخارج باعتباره مصدر التقدم، ويتشربون قيمه، والعاملون فى القطاع «الوطنى» ينظرون إلى الخارج باعتباره سبب كل البلاء ولا هم له سوى استغلال موارد بلادهم، وتنمو لديهم قيم رفض كل ما هو أجنبى، ومع ارتباط هذا النموذج بسياسات تؤكد النمو وحده دون إعادة توزيع للثروة، يصحب النمو انتشار الفقر والبطالة لأن قطاع الشراكة بتكنولوجياته المتقدمة لا يمكن أن يوفر العمالة المجزية لكل من يطلبها، وهكذا يصل الأمر إلى ما يشبه انقسام الوطن الواحد إلى أمتين فى قطيعة اقتصادية واجتماعية وسياسية، وأخيرا فإن الدولة مع اتساع مجالات الشراكة إلى البنوك وشركات التأمين والاتصالات والصناعات الكبرى إنتاجية أو استهلاكية تفقد تدريجا سيطرتها على مسار التنمية.
أين مصر من هذا النموذج؟
هذه هى قصة الدول الصناعية الجديدة فى أمريكا اللاتينية وبعض دول جنوب شرق آسيا مثل إندونيسيا وتايلاند التى اهتدت بهذا النموذج، وقد أدركت بعض شعوب هذه الدول فداحة الثمن الذى تدفعه، خصوصا وأنه كان تتكامل ملامحه فى ظل حكومات عسكربة أو سلطوية ارتكبت أبشع انتهاكات حقوق الإنسان. ولذلك فإن سنوات قليلة من العودة إلى نظم حكم تقوم على الانتخاب شهدت وصول أحزاب اليسار إلى السلطة فى عدد من دول أمريكا اللاتينية حاولت أن تقلل من شطط هذا النموذج ليس بالعدول عنه، ولكن بتخفيف بعض آثاره من خلال زيادة الإنفاق على الخدمات الاجتماعية ومحاربة الجوع كما تشهد على ذلك خصوصا تجربة البرازيل.
أما فى مصر، فلم يجن الاقتصاد المصرى منافع كبرى من الدخول فى هذه الشراكة، فمعظم الاستثمارات الأجنبية فى مصر هى فى قطاع استخراج البترول والغاز الطبيعى، ثم العقارات، ولا يحظى قطاع الصناعة سوى بنسبة 7% من إجمالى الاستثمارات الأجنبية فى السنوات الأخيرة، كما تدفق الاستثمار الأجنبى إلى قطاع الاتصالات، الذى تهيمن عليه شركات أجنبية. وهكذا لم يعرف الاقتصاد المصرى نقلة كبرى على طريق التصنيع، ولم يكتسب اتساعا فى حجم الطبقة العاملة الصناعية أو تخفيفا من أزمة البطالة والفقر التى يعانى منها أفراد الطبقة الوسطى المهنية ممن لا يجدون عملا مجزيا فى وطنهم. بل على عكس ما تم فى دول أمريكا اللاتينية، فالشركات الدولية العاملة فى مصر تسعى للتخلص من الشريك المصرى كما فى حالة أوراسكوم تيليكوم، ففى لحظة أزمة الرأسمالية العالمية تكون القاعدة هى احتكار الأرباح من خلال الاستحواذ وليس الحرص على مجاملة الطرف الأضعف فى الشراكة.
ليس هناك مخرج سهل من أزمة الصراع على الأسواق بين رأسمالية الأطراف ورأسمالية المراكز المتقدمة سوى بشرطين: أن تقوم الدولة فى مجتمعات الجنوب بتحديد قواعد التعامل بين الشركات الدولية والشركات المحلية على نحو يعزز بقدر الإمكان سيطرتها على مسار التنمية فى اقتصادها، وأن يدرك الشركاء المحليون فى القطاعين الخاص والعام أن هذه الشراكة لا تعرف صداقات دائمة، وإنما عليهم استخدامها لتحسين مواقعهم النسبية حتى يستطيعوا تغيير قواعد اللعبة لصالحهم. وإذا كان من ثمة مثل يحتذى به، فلننظر لما تفعله كل من الصين والهند.