المرجعية الإيمانية العربية للأخلاق
علي محمد فخرو
آخر تحديث:
الأربعاء 25 يناير 2023 - 8:50 م
بتوقيت القاهرة
ذكرنا فى مقالين سابقين كيف قامت الحضارة الغربية بتسييد الإنسان المطلق فى الموضوع الأخلاقى وتهميش الدور الإيمانى الروحى الدينى كمصدر للقيم الأخلاقية فى كل شئون الحياة التى تهم الإنسان. من هنا الأهمية الكبرى لبناء مرجعية ذاتية عربية للقيم الإنسانية والأخلاقية تأخذ بعين الاعتبار تاريخ وثقافة هذه الأمة وتراثها الروحى الإيمانى البالغ التجذر فى نفوس وعقول شعوب هذه الأمة، مع الاستفادة من فكر ومرجعيات الآخرين التى لا تتعارض مع ما نريد بناءه لحضارتنا.
إن ما يعطى أهمية للمرجعية الدينية كجزء هام وأساسى فى بناء المرجعية الذاتية هو الآتى: أولا الاتفاق شبه العام من أن الدين، إضافة للجوانب العقائدية والتعبدية منه، هو رسالة أخلاقية فى الدرجة الأولى، والتى هى فى كثير من تفاصيلها تأكيد لكثير من القيم الأخلاقية الفطرية عند الإنسان.
وثانيا أن هناك فرقا بين الاستجابة الإنسانية لقيم أخلاقية وضعها الإنسان، وبالتالى قابلة لأن تكون مليئة بالثغرات والأخطاء، وبالتالى أيضا غير ملزمة وقابلة للأخذ والعطاء والاستعمالات الانتهازية، وبين قيم هى أوامر وتوجيهات إلهية عليا تتصف بالطبع بالكمال المطلق. هذا بالطبع بالنسبة للإنسان المؤمن المصدّق المستسلم لوجود الإله الذى يسميه دينه ويأمر بطاعته.
وثالثا، وكنتيجة لتوفر ما جاء فى ثانيا من إيمان صادق، لا يمكن للإنسان إلا أن يؤمن بأن الإله الذى يعبده هو مراقب لتصرفاته ولالتزامه بالقيم الأخلاقية التى أمر الله بها مثلا فى دين الإسلام. إن شعور الإنسان العميق بأن هناك من يتابع كل صغيرة وكبيرة من ممارسته للقيم الأخلاقية المأمور بها من قبل السلطة الربانية، وأن تلك السلطة تراقب الظاهر والباطن وتعرف السر وما أخفى، تجعل أخذه بعين الاعتبار لكل قيمة أخلاقية ليلا ونهارا، ظاهرا وباطنا، وليس بصورة انتقائية نفعية. هذا الإنسان يعرف أن المساس بالقيم الأخلاقية هو مساس بإيمانه وبعقيدته وبالتالى بقربه أو بعده من الرب القدير.
بالنسبة للمسلمين والمسلمات، هناك القرآن الكريم الذى يزخر بالتوجيهات والأوامر القيمية الأخلاقية، وهناك الأحاديث النبوية المؤكدة المطهرة، وهناك أيضا الكثير من الاجتهادات الفقهية المتزنة المرتبطة بالموضوع. نحن بالفعل أمام مصادر هائلة وغنية من التوجيهات الأخلاقية التى فى اعتقادى ستغطى الموضوع برمته، موضوع الفضائل والرذائل. وبالطبع فإن الإخوة المسيحيين لديهم مصادرهم ومرجعياتهم الدينية المتعلقة بالموضوع.
المهم بالنسبة لهذا الموضوع هو الرفض التام لمحاولات فصل الدين، كمرجعية، عن الأخلاق، قيما وممارسات، إذ إن ذلك سيكون كارثة لكل مناحى حياة الإنسان الدنيوية.
سيكون من الخطأ الاكتفاء بذلك النبع الهام وحده، ذلك أن إبعاد العقل والإرادة على الأخص، بالنسبة لهذا الموضوع، سيبعد الإنسان عن واقع تطبيقات وسلوكيات الأخلاق الإنسانية التى تتغير وتتبدل عبر الأزمنة. من هنا الأهمية القصوى للارتهان إلى العقلانية الإنسانية وإلى الإرادة الحرة الإنسانية للتعامل مع هذا الجانب من حقل القيم الأخلاقية وإبعاده عن التزمت والانغلاق من جهة ولكن، وفى نفس الوقت، حمايته من العبث والعابثين، كما يحدث الآن فى الكثير من المجتمعات، وعلى الأخص الغربية منها كما أسلفنا فى مقالات سابقة. فالمحاولات العبثية الحالية هى فى الواقع تظلم الأخلاق والدين وتؤدى إلى تشويه الاثنين، بالرغم من أنها تدعى أنها ستحرر الاثنين من تبعات كل منهما.
ما يحتاج شباب وشابات هذه الأمة معرفته هو أنها جرت محاولات كثيرة عبر أكثر من قرن لبناء تلك المرجعية العربية دون الوصول إلى توافق عام بالنسبة لتفاصيل هذا الموضوع. وهناك ضرورة لأن تضع شابات الأمة ويضع شبابها جهدا مكثفا للاطلاع على أدبيات الموضوع. وليس بغريب على هذه الأمة أن تحاول عبر القرن الماضى أن تبنى المرجعية الذاتية، ذلك أن موضوع الأهمية الكبرى للعقل الإنسانى كمتفاعل مع وموضح للرسالة السماوية قد خاضته جماعات المعتزلة فى الماضى ويحتاج الآن لمعاودة النظر فيما قالته وتجديده، وبالتالى فالعقلانية ليست غريبة على هذه الأمة وكذلك موضوع الإرادة الإنسانية الحرة قد نوقش مطولا فى الماضى، وبالتالى ليس بالموضوع الغريب. إن مناقشة الأمرين كجزء من بناء المرجعية الأخلاقية أصبح من الضرورات.
عليه، فسنستمر فى طرح هذا الموضوع حتى نجعله واضحا وأساسيا فى عقول ونفوس وضمائر شبابنا وشاباتنا.
مفكر عربى من البحرين