حـــدود التغـــول الإثيوبي في شرق إفريقيا
أيمن النحراوى
آخر تحديث:
الخميس 25 يناير 2024 - 8:05 م
بتوقيت القاهرة
يبدو أن السياسة الإثيوبية لا تعتبر نفسها دولة كبيرة وحسب، بل تعتبر نفسها دولة إقليمية مهيمنة قادرة على فرض رؤيتها ومخططاتها على الجميع، ويبدو أن ذلك مستمد من نظرة استعلائية فوقية تنظر إلى ما غيرها من دول وشعوب شرق إفريقيا على أنهم أقل منها شأنا ومكانة، لذلك فإن علاقات إثيوبيا مع دول جوارها لم تخل أبدا من الصراع طوال الأعوام والعقود السابقة، حيث تم خوض العديد من النزاعات المسلحة والحروب مع دول الجوار؛ الصومال وإريتريا والسودان.
• • •
العلاقات بين السودان وإثيوبيا والتى تشتعل وتيرتها بفعل العديد من العوامل التى يأتى فى مقدمتها المخاوف السودانية المتصاعدة بسبب السد الإثيوبى وتجاهل إثيوبيا لمخاوف السودان من آثاره السلبية الخطيرة، وانتهاجها سياسة المراوغة التفاوضية بشأنه مع السودان كأحد دولتى المصب، وتهرب إثيوبيا من تقديم أى التزامات قانونية بشأن ملء السد وتشغيله، وضمان حصة السودان التاريخية من المياه.
كذلك تجاهل إثيوبيا لمخاوف السودان من احتمال انهيار السد بعد تغيير تصميمه الأصلى والإصرار على تعليته وتجاهل حقائق الطبيعة الجيولوجية الهشة للأرض فى منطقة السد، وهو انهيار لو حدث سيكون كفيلا بإحداث دمار شامل فى مدن وبلدات السودان وتدمير سدودها وطرقها والقضاء على مجتمعاتها.
الأمر الآخر الذى يؤجج النيران هو منطقة الفشقة السودانية الزراعية الخصبة التى تعد مطمعا لإثيوبيا، رغم المعاهدات الموقعة فى عامى 1902 و1907 التى تضمنت أن تمتد حدود السودان الدولية مع إثيوبيا إلى الشرق من الفشقة، وفى عام 2008 اتفقت إثيوبيا والسودان على تسوية هذه المسألة بأسلوب الحدود الناعمة بحيث يتم إقرار هذه الحدود قانونيا بين البلدين، على أن يسمح السودان للمزارعين الإثيوبيين بزراعة الأراضى فيها على ألا يتعارض ذلك مع مصالح المزارعين السودانيين أو ينتقص من أراضيهم.
لكن يبدو أن تلك المنطقة السودانية الخصبة قد دخلت بالفعل ضمن المطامع الإثيوبية، فالحكومة الإثيوبية قد نشرت تعزيزات عسكرية فى تلك المنطقة تضم عناصر من جيشها وميليشيات من ولاية أمهرة المجاورة لإقليم الفشقة السودانى بدعوى حماية المزارعين الإثيوبيين، بل وتمت إقامة مستوطنتين للجيش وواحدة أخرى للميليشيات فى المنطقة كنوع من فرض الأمر الواقع، حيث بات المزارعون السودانيون عرضة للهجمات والتهجير.
• • •
أما عن الصومال فالتغول الإثيوبى تجاهه ممتد ومستمر منذ تم تكريسه بفعل الاستعمار الأوروبى، الذى منح قبل رحيله لإثيوبيا إرثا غير مستحق من الأراضى الصومالية من خلال خطوط الحدود التى رسمتها أيدى عتاة المستعمرين لتمنح ما لا تملك لمن لا يستحق.
حاولت الصومال استعادة أراضيها عدة مرات كان أهمها الحرب فى منتصف السبعينيات التى تمكنت فى أولها الصومال من تحرير معظم الصومال الغربى المعروف باسم إقليم أوجادين، إلا أن الولايات المتحدة سارعت بإمداد إثيوبيا بالسلاح وحولت ميزان الحرب لصالحها.
وبعد انهيار حكومة سياد برى، باتت حدود الصومال وكأنها مباحة لتوغل القوات الإثيوبية فسيطرت على مدينتى لوق وبيدوا الصوماليتين، وباتت إثيوبيا فى سياساتها تجاه الصومال وكأنها المستفيد من تردى الأوضاع فى الصومال، وتقسيم البلاد بين كيانات ودويلات يسهل التحكم فيها واستقطابها، فضلا عن تغذية الصراعات وتعميقها بين الأطراف المختلفة وإمدادها بالمال والسلاح حتى لا تقوم للصومال قائمة.
• • •
بعد استقلال إريتريا عن إثيوبيا، باتت سواحل البحر الأحمر شرق إثيوبيا وموانئ أسمرة ومصوع وعصب جميعها موانئ للدولة الإريترية، وعليه تكونت لإثيوبيا معضلة جغرافية سياسية، بتحولها إلى دولة داخلية حبيسة، وهو ما لا يتفق مع رؤيتها لنفسها كقطب إقليمى مهيمن فى شرق إفريقيا، وهى المنطقة التى تعدها مجالها الحيوى ونطاق نفوذها ومخططاتها.
حاولت إثيوبيا تجاوز تلك المعضلة بعقد اتفاقات مع الدول الإقليمية التى لديها موانئ بحرية، فسعت إلى إريتريا لاستخدام ميناء عصب، وكذلك السودان لاستخدام ميناء بورسودان، وكينيا لاستخدام مينائى مومباسا ولامو، لكن ذلك كان غير كافٍ بفعل عوامل المسافة والتكلفة فكان الملاذ المتاح هو ميناء جيبوتى.
لكن جيبوتى التى يتواجد بها العديد من التسهيلات والقواعد العسكرية البحرية الأمريكية والصينية والفرنسية وحتى اليابانية والإسبانية والإيطالية، تجعل الأمر غير مريح لمتخذ القرار الإثيوبى، فضلا عن أن مرور 90% من حجم التجارة الخارجية الإثيوبية عبر جيبوتى، جعل إثيوبيا عرضة لأى تقلبات أو أحداث فى جيبوتى، فضلا عن الرسوم التى تفرضها جيبوتى على البضائع الإثيوبية الصادرة والواردة.
والمؤسف أن أديس أبابا لجأت لحل هذه المعضلة على حساب مقديشيو واستقلال الصومال وسلامة أراضيه، فأبرمت مذكرة تفاهم مع ما يسمى بجمهورية أرض الصومال وهى جمهورية لا وجود لها ولم تعترف بها أى دولة، وهى مذكرة تتيح لإثيوبيا منفذا بحريا بطول 20 كم، واستخدام ميناء بربرة على الساحل الجنوبى لخليج عدن لمدة 50 عاما، مع تطوير الطريق البرى لممر بربرة بطول 260 كيلومترا ليصل بين بربرة والحدود الإثيوبية.
وفى المقابل، تتعهد إثيوبيا بالاعتراف رسميا بجمهورية أرض الصومال كدولة مستقلة «فى الوقت المناسب»، مع مساعدتها اقتصاديا وعسكريا وأمنيا، كل هذا بمنأى عن الدولة الصومالية والحكومة الشرعية، وكأن إثيوبيا تشجع ضمنا على تقسيم الصومال وتفكيكه واستغلال ظروفه لاقتطاع جزء من أراضيها تحت مسمى الممر البحرى إلى ميناء بربرة، وبالطبع ستتواجد القوات الإثيوبية فى تلك المنطقة لتأمين حركة البضائع والمرور منها وإليها.
• • •
حدود التغول الإثيوبى وصلت إلى مستويات خطيرة، إلى الحد الذى دفع أحد كبار المسئولين فى مقديشيو للتصريح بأن الصومال مستعدة لخوض الحرب لمنع إثيوبيا من الاعتراف بإقليم أرض الصومال الانفصالى ومنع تنفيذ الاتفاق المشبوه غير الشرعى بشأن الممر والميناء.
والسؤال الذى يطرح نفسه بقوة، هو عن مدى ارتباط تلك الأحداث بما يجرى من تصعيد فى منطقة خليج عدن ومضيق باب المندب، والوجود العسكرى للعديد من الدول فى تلك المنطقة بصورة غير مسبوقة، والغموض المحيط بموقفها من التحركات الإثيوبية، فضلا عن ردود الأفعال السلبية للعديد من دول تلك المنطقة على تلك التحركات.
والأمر برمته بات يستدعى رصد الأحداث عن كثب فى تلك المنطقة ومتابعة تطوراتها، ولاسيما أن إثيوبيا رغم ظروفها الاقتصادية الصعبة تواصل انتهاج تلك السياسات بإصرار، ويبدو أن هناك داعما خفيا لها أو داعمين؛ لهم أجنداتهم فى تلك المنطقة والتى تتقاطع مع الأجندة الإثيوبية وتتفق معها فى توجهاتها وتشاركها أهدافها.. وإن غــــدا لناظره قريب.