الصومال الجديد
صحافة عربية
آخر تحديث:
الجمعة 25 مارس 2016 - 9:40 م
بتوقيت القاهرة
تستحق التجربة الماثلة فى الصومال وقفة جديدة ومتجددة باعتبار أنها تجربة فريدة المثال فى العالم العربى، بسبب الانهيار المبكر لنظام الجنرال الراحل محمد سياد برى منذ عقود خلت، وسيادة الحرب الأهلية وما أفرزته من بلايا ناءت بكلكلها على الشعب الصومالى، فأصبح الملايين منهم مهاجرين فى مختلف الأقطار والأمصار، ولم تولِ الأنظمة العربية المشابهة لنموذج النظام المنهار فى الصومال أدنى عناية للاستفادة من تلك التجربة، ومراجعة الذات بحثا عن حلول استباقية تمنع تكرار السيناريو الصومالى فى بلدانهم، فكانت النتيجة الدرامية لتلك الحالة المقيمة فى طمأنينة الترغيب والترهيب، وما رأيناه من انفجار شعبى قبل سنوات قليلة خلت، فأصبحت حالة المتاهة العربية تعيد إنتاج خرائبها فى تأكيد متجدد على وحدة السؤال المركزى فى المنطقة العربية.
الصومال التى قدمت الثمن مبكرا، وخاضت المتاهة فى أكثر أشكالها بؤسا ودمارا، وجدت حلولاً جوهرية للمعضلة، ولقد تمثلت تلك الحلول فى إقرار كل فرقاء التوافق والاختلاف الصومالى بضرورة الانتقال إلى دولة مركزية اتحادية تنعتق من محنة الدولة المركزية البسيطة التى استعاضت عن حكمة الشراكة والمواطنة القانونية المتساوية، ببؤس الاحتكار المفرط للسلطة والثروة من جهة، وما ترافق مع ذلك من تجفيف لمنابع النماء والتطور الطبيعى، فكانت النتيجة الحتمية احتقاناً شاملاً أفضى إلى الحرب الأهلية المدمرة.
تاليا، وبعد الثمن الباهظ الذى دفعه الصوماليون اقتنع الجميع بضرورة، بل وحتمية الانتقال نحو نظام دولتى مغاير لما كان فى عهد الجنرال سياد، وبدأت التباشير المبكرة للفكرة الاتحادية فى شمال الصومال التى دأبت على التبادل السلمى لسلطة الجمهورية المعلنة من طرف واحد خلال العقدين الماضيين، والتحقت ولاية وسط الصومال التواقة لدولة اتحادية بذات الحكمة، فدأبت على تبادل سلطة الولاية من خلال التشاور المفتوح والانتخاب المباشر، وكانت لهذه المقدمات الحميدة فى الشمال والوسط أثرا محمودا على فرقاء العاصمة ونواحيها، ممن أمسكوا بذات المعادلة التناوبية للسلطة، واعتبروا الدستور الاتحادى للدولة الجديدة مرجعا لوحدة الصوماليين وتنوعهم فى ذات الوقت.
***
النتائج المباشرة لما وصل إليه الصوماليون تتمثل اليوم فى استتباب السلم فى الإقليمين الشمالى والجنوبى.. هنالك حيث تسير الحياة الطبيعية بوتيرة نمائية صاعدة، وبسعادة يومية مسيجة بالتعايش السلمى والتكامل المقرون بتمتين اللحمة الوطنية الشاملة لعموم الصوماليين.
المراقبون الذين زاروا هرجيسيا وبرعو وبوصاصو فى شمال ووسط الصومال عادوا مبهورين مما رأوه على الأرض من شواهد للانتظام الطوعى فى معطيات النظام والقانون، مما كان له أثره الكبير فى سير الحياة، وتعايش الأنساق الاجتهادية، وسيادة السلم والإخاء بين عموم الناس، وتراجع التطرف والغلو بكل أنماطه وتمظهراته، وانحسار ثقافة الحرب والدمار، لتحل محلها ثقافة البناء والعمران.
وعلى ذات الدرب تتنامى أوضاع العاصمة وكامل النواحى الجنوبية، بالرغم من الصراع المحموم بين فصيلى المحاكم الشرعية سابقا، فمنهم من قبل بالعملية السياسية واستحقاقاتها الجبرية، وهؤلاء هم عمليا فى قلب معادلة الحاكمية، ولكن بحضور أفقى وقبول قانونى لمختلف المكونات السياسية والاجتماعية الصومالية، ومنهم من يرفض الدولة العصرية الاتحادية التعددية باحثين عن (إحياء الخلافة الإسلامية)، وهؤلاء ما زالوا يقارعون الشرعية التوافقية الصومالية، ويعرقلون المسار الطبيعى للتطور العام فى عموم المناطق الجنوبية بالصومال.
المشهد الذى أسلفت عرضه بابتسار واختصار يومئ إلى المتغير الجوهرى الذى تشهده الصومال، بوصفه متغيرا يستحق مراقبة الأشقاء العرب، والاستفادة من مقدماته ونتائجه، وتقبع اليمن فى مكانة أساسية من هذه النصيحة الثمينة، فقد كانت اليمن وما زالت الأقرب إلى الصومال، ولم تتدخل فى ذروة الصراعات البينية الصومالية لتغليب طرف على آخر، وكانت الحاضن الطبيعى لعموم الصوماليين الهاربين من جحيم الحرب الأهلية، وأسهمت بأدوار بناءة فى معادلة الحوارات البينية الصومالية، وبالمقابل تشهد اليمن اليوم أفدح مما شهدته الصومال طوال مأساة الحرب الأهلية.. كما أن فرقاء الساحة اليمنية مجبرون منطقيا وعقليا وسياسيا بتبنى نموذج الدولة الاتحادية اللامركزية متعدده الأقاليم، وبصلاحيات تنموية واستثمارية وإدارية تامة.
إن هذا النموذج بالذات هو ما يجعل شمال الصومال المعلنة باسم (جمهورية أرض الصومال) نموذجا فريدا للسلم والنماء ووحدة الشعب الصومالى، وإن كامل البيئة التفاعلية الوطنية فى تلك الديار أقنعت وتقنع صوماليى الشمال بالدولة الاتحادية، كما أقنعت وتقنع صوماليى الوسط والجنوب بمعنى الوحدة الصومالية المحكومة بعبقرية التنوع.
الخليج ــ الإمارات
عمر عبدالعزيز