أسعار المحروقات.. والمحروقون بالأسعار
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 25 مارس 2024 - 7:25 م
بتوقيت القاهرة
لا يختلف عاقل على أن الانضباط المالى هو مطلب أساس للإصلاح الاقتصادى المصرى فى ظل الوضع الراهن. وكما ظللْت أنادى بهذا الانضباط استكمالًا لسياسات التشديد النقدى، التى بدأت تؤتى بعضًا من الثمار فى جذب رءوس الأموال، فإننى كنت حريصًا على توضيح مزايا الكبح المالى، القائم على تخفيض المصروفات العامة، عوضًا عن الإفراط فى زيادة الإيرادات. فالأخيرة تعنى مزيدًا من الضغط على المواطنين، فى ظل تردّى الأوضاع الاقتصادية بصفة عامة، وانعكاسها السلبى على أوضاع المعيشة، وزيادة معدلات الفقر، وتراجع القوة الشرائية للعملة الوطنية بشكل كبير.
ومن متطلبات الإصلاح الجوهرى لأزمات العجز المزمن فى الموازنة العامة للدولة، وارتفاع نصيب الدين من تلك الموازنة، أن تتخلّص الحكومة بشكل تدريجى من الدعم غير الموجّه وغير الرشيد. هذا أيضًا أمر لا خلاف عليه، خاصة أن نسبة كبيرة من دعم المواد التموينية ومنتجات الطاقة يتسرّب إلى غير مستحقيه. وبالتالى فمن المعقول أن يدفع البعض بأن ارتفاع أسعار المحروقات الذى أقرته اللجنة الحكومية المعنية بذلك مؤخرًا، هو نوع من المعالجة لأزمة زيادة قيمة الدعم الحكومى لأسعار الوقود فى الموازنة العامة، والتى ارتفعت إلى نحو 120 مليار جنيه فى موازنة عام 2023/2024 صعودًا من 58 مليارًا فى الحساب الختامى للموازنة العامة للعام المالى 2022/2023. وعلى الرغم من وجاهة هذا الدفع، غير أنه ينطوى على عدد من الملاحظات التى لا بد من التعرّض لها لتجنّب التقلبات العنيفة فى أسعار مواد الطاقة مستقبلًا، لما فى ذلك من أثر سلبى على الاستهلاك والاستثمار ومستويات المعيشة.
• • •
إن الاقتصاد القائم على تسعير المنتجات وفقًا لآلية العرض والطلب فى سوق تنافسية، هو الضمانة الحقيقية لتجنّب التشوهات السعرية، والتى عادة ما تنشأ من التدخّل فى عملية التسعير بفرض ضريبة أو دعم. وعليه فإن التخلّص من الدعم يعمل على تخليص سوق منتجات الوقود من التشوّهات السعرية التى تضر بالعرض والطلب، وتحمّل الحكومية بأعباء لا تستطيع تجاوزها إلا بمزيد من الاستدانة والتمويل بالعجز. لكن هنا نحتاج إلى وقفتين، أحدهما مع مفهوم «الدعم»، والأخرى مع السوق التنافسية.
فالدعم فى هذا السياق هو الفرق الذى تتحمّله الدولة بين تكلفة الإنتاج (أو الإتاحة) وسعر البيع. ولأن مصر منتج للنفط ومشتقاته فإن تكلفة الإنتاج التى يتطلع المواطن إلى معرفتها كى يحدد بالضبط كم عليه أن يدفع مقابل المنتج الذى يحصل عليه، تتمثّل فى تكاليف إنتاج لتر الوقود متضمنا كافة مصروفات الاستكشاف والاستخراج والإنتاج والتوزيع والتسويق.. إلخ. فإذا كانت تلك التكلفة أكبر من السعر الذى يشترى به المستهلك لتر الوقود من المحطات، فإن السعر عندئذ يكون مدعومًا. لكن مصر منتج للنفط الخام والغاز الطبيعى، وتعمل على تصدير المنتج الخام سواء من حصتها أو حصة الشريك الأجنبى، وبالتالى فإن المنتجات المصنّعة التى يستهلكها المنتج النهائى تكون مستوردة من الخارج. هنا يختلف مفهوم التكلفة بالنسبة للدولة والمستهلك. فتكلفة لتر الوقود هى عبارة عن تكلفة الاستيراد والنقل والتوزيع.. غير متضمنة تكاليف التصنيع أو قيمة مضافة معتبرة محليًا، لكنها محمّلة بتكلفة تدبير العملة الصعبة الشحيحة، وتقلبات سعر الصرف، وتكلفة الفرصة البديلة بالنسبة للمواد البترولية التى تتاح محليًا (مثل الغاز الطبيعى لمحطات الكهرباء). حيث تعبّر الفرصة البديلة فى هذه الحال عن العائد الذى يمكن لوزارة البترول أن تحصل عليه لو أنها قامت بتصدير متر مكعب من الغاز، عوضًا عن إتاحته للاستهلاك المحلى من قبل محطات توليد الكهرباء (مثلًا).
بالتالى فإن المستهلك الذى احتفى بالاستكشافات البترولية الجديدة وبالاتفاقات المهمة لترسيم الحدود البحرية، التى مكّنت مصر من استغلال حقول للغاز الطبيعى غير مستغلة، يجد نفسه يتعامل مع معضلة الاستيراد من الخارج، بغير أية ميزة تذكر لكون مصر منتجًا للوقود الأحفورى. وتصبح القيمة الوحيدة لتلك الاستكشافات هى تأمين مصدر دولارى من منتج «خام» يتم تصديره مباشرة دون أية استفادة منه فى عملية التنمية المحلية. شأنه شأن أى مننج خام زراعى أو معدنى، ليست له علاقة مباشرة مع احتياجات الطاقة المطلوبة محليًا.
إذن، الدعم الذى تتحمّله الحكومة لا علاقة له بتكلفة الإنتاج، والتى كان يمكن للدولة أن تعمل على تخفيضها بتحسين كفاءة العملية الإنتاجية. فالدعم بهذا المفهوم هو قيمة شديدة التقلّب، تخضع لمعادلة للسعر العالمى ولسعر صرف الدولار. التخلّص من الدعم يعنى أن يكون المستهلك المحلى لمنتجات الطاقة بمثابة مشترٍ من السوق العالمية، يتنافس فى ذلك مع مختلف المستهلكين من سائر دول العالم، على اختلاف مستويات دخولهم وقدراتهم الشرائية. من ثم فإن المخاطر المنطوية على الانتقال إلى تلك المعادلة يجب أن تعالج على مستوى أكبر من وزارتى البترول والكهرباء، فهو أمر يتوقف عليه الكثير من النتائج المرتبطة بالإنتاج والاستهلاك والاستثمار والبطالة والفقر.. وهو تحوّل كبير فى دور الدولة فيما يتعلّق بتوفير مصادر الطاقة اللازمة لعملية التنمية فى دولة «نامية» تحتاج إلى الكثير من الطاقة لتحقيق مستهدفاتها.
• • •
قبل الانتقال إلى الآلية المفضّلة للتعامل مع معضلة الدعم السابق توضيحها، فسوف أعرّج سريعًا على وقفتنا الثانية، والمتمثلة فى السوق التنافسية. لأن الدفع بأن توقّف الدولة عن تشويه الأسعار، وتركها لآلية العرض والطلب، مشروط بأن يتم تداول منتجات الطاقة على اختلاف أشكالها فى سوق تنافسية، حتى لا تخضع لحسابات المحتكر. خاصة إذا لم تتحقق لهذا المحتكر الكفاءة المطلوبة، وصار على المستهلك أن يتحمل بفاتورة إضافية لسوء الإدارة والفاقد والهدر والسرقة (كسرقة التيار الكهربائي) والرواتب غير المتناسبة مع الإنتاجية والديون الرديئة (خاصة الدولارية)... وكل ذلك يمكن أن يتسبب فى ارتفاع تكاليف إتاحة منتجات الطاقة للمستهلك عن أسعارها التوازنية (التنافسية) بما يتم تسميته «دعمًا» على سبيل الخطأ فى التوصيف.
ولأن الدولة لا تعتزم فيما يبدو التخلّى عن مركزها الاحتكارى فى تلك الأسواق المنتجة للخام، والمستوردة والموزّعة للمنتج المصنّع، والمنتجة والموزّعة للكهرباء.. فليس أقل من تحسين كفاءة تلك المرافق، بما يحقق تحسين هيكل التكاليف والعمل على تحديد التكاليف المباشرة، وتخليصها من تكلفة الديون التى تراكمت على بعض المرافق والشركات العامة، فى غيبة الإدارة المالية وإدارة المخاطر على النحو الذى تتطلبه الأسواق لتعظيم منفعة المستهلك.
ويمكن للدولة أن تتعامل مع تلك المعضلة فى الأجلين الطويل والقصير على النحو التالى: أولا فى الأجل القصير: يتعين على الدولة إدارة مخاطر تقلبات أسعار منتجات الوقود المصنّعة باستخدام العديد من أدوات التحوّط مثل عقود المبادلة السلعية Commodity Swaps. ونظرا لأن مصر منتج ومصدّر للنفط الخام ومستورد للمنتج المصنّع (ذى القيمة المضافة) فإنها تحتاج إلى عقود مشتقات تعمل على استقرار الفرق السعرى بين المنتج الخام والمنتج المصنّع. تلك المشتقات السلعية تأتى بتكلفة (premium) لكنها لا تعدو أن تكون أشبه بتكلفة أقساط التأمين.
بالمثل يتم التحوّط ضد تقلبات سعر الصرف. ولأن وزارة البترول لابد وأنها تعرف تلك العقود، التى نادينا بالاهتمام بها فى غير مقال، فإن كفاءة إدارتها لعقود المشتقات يجب أن تكون محل رقابة وتقييم. لأن الفشل فى هذا الملف يتحمله المواطن تحت مسمّى الدعم أيضًا. بالتالى فإن ارتفاع أسعار النفط الخام إلى 80 دولارًا فى الموازنة الجديدة، ينبغى ألا يترجم فى صورة ارتفاع للدعم مباشرة! لأن أدوات التحوّط يمكنها أن تحافظ على الفرق بين العائد المحقق من بيع المنتج الخام والتكلفة الإضافية الناتجة عن ارتفاع أسعار المنتج المصنّع مثل البنزين. كذلك يمكن لتلك الأدوات الاستفادة من الدورات الاقتصادية للسلع، وتحقيق فوائض كبيرة لدى ارتفاع الأسعار وانخفاضها على السواء.
فى الأجل الطويل، يجب على الدولة الانتقال من تصدير النفط الخام ومشتقاته إلى تصنيعه محليًا. هذا يتطلب الدخول فى شراكات واسعة مع القطاع الخاص الأكثر كفاءة، لحين التخارج بشكل أوسع فى مرحلة لاحقة. التصنيع المحلى يقلل من مخاطر التعرّض لتقلبات سعر الصرف وأسعار المنتج فى الأسواق العالمية. ولا بأس أن يتحمل المستهلك بجانب من تكلفة الفرصة البديلة، إذ إن المنتِج المحلى ربما يفضّل التصدير للمنتَج المصنّع عن بيعه محليًا، متى كانت الأسعار العالمية محققة لمكاسب استثنائية. لكن على أية حال، فإن استخدام أدوات التحوّط تساعد على استقرار أسعار منتجات الطاقة بصفة عامة، وهو الأمر الذى لا غنى عنه لتحقيق معدلات نمو مستدامة تتراوح بين 6 و8%، وهى المعدلات التى يمكنها وحدها تحقيق مستهدفات التنمية للبلاد.
• • •
الضغوط التضخمية الناشئة عن رفع أسعار المحروقات سوف تكون كبيرة. خاصة وهى تأتى فى وقت لم يتحقق للبنك المركزى بشكل حاسم تأثير قرارات رفع الفائدة وخفض الجنيه، على معدلات التضخم السنوية. بل إن المركزى ألغى اجتماعه، المقرر قبل نهاية مارس، اطمئنانًا إلى أثر قراراته الأخيرة، فى معزل عن تداعيات قرارات رفع أسعار المحروقات، وفى معزل عن قرار الفيدرالى الأمريكى بتثبيت أسعار الفائدة (ومد أمد سياسة التيسير النقدى لهذا العام)، وقرار المركزى التركى برفع أسعار الفائدة بـ500 نقطة أساس.
زيادة الإيرادات وإن كانت ليست مقدّمة عن خفض المصروفات فيمكن أن تتحقق بفرض ضرائب استثنائية تسمى windfall taxes تخضع لها بعض الأنشطة التى استفادت من الصدمات الأخيرة فى الأسواق، ولهذا الأمر حديث آخر.