قائمة المقاولين الحكوميين السوداء

محمد علاء عبد المنعم
محمد علاء عبد المنعم

آخر تحديث: الأحد 25 مايو 2025 - 7:50 م بتوقيت القاهرة

أدمى قلبى، كما أدمى قلوب كثيرين غيرى، الحادث المفجع الذى وقع بطريق الواحات قرب مدينة السادس من أكتوبر فى أبريل الماضى، حيث انفجر خط غاز بسبب كسر نتج عن أعمال حفر قامت بها شركة مقاولات، وقد أدى هذا الكسر إلى تسريب للغاز، وبدلًا من الإبلاغ عن الكسر، قام المقاول بردم الحفر والتغطية على الأنبوب المكسور، واستمر التسريب على مدى يوم أو يومين، إلى أن وقع الانفجار بسبب تشبع الهواء بالغاز مع ارتفاع درجات الحرارة، وراح ضحية الحادث مصريين ومصريات من مختلف الأعمار.

بحسب وزارة البترول وبيان نقابة المهندسين الفرعية بمحافظة الجيزة، فقد قام "المقاول" بالحفر دون تنسيق مسبق مع شركة الغاز المسئولة فى المنطقة، ذكرنى هذا الحادث الأليم بحادث آخر وقع فى مايو 2022، وهو تصادم سيارتين عند نهاية كوبرى الرحاب نتيجة ارتفاع بالوعة مجارى عن مستوى سطح الأرض بحوالى 15 سم، وهو الحادث التى نتج عنه مصرع سبعة شباب وإصابة آخرين.

فى الحادثين تكررت كلمة "المقاول"، فى انفجار طريق الواحات الأخير، يبدو أن المقاول شركة خاصة تعمل فى مجال الإنشاءات، ونتيجة الإهمال أو الاستسهال أو غير ذلك، لم تحصل الشركة على خرائط خطوط الغاز التى من المفترض أن تكون متاحة للشركات العاملة فى مجال البناء، ولم تقم الشركة بالتنسيق اللازم فى إهمال يصل إلى درجة الإجرام.

وفى الحادثة الثانية، فقد انتهت شركة المقاولات من الكوبرى وتم تسليمه وتشغيله بهذا العيب الخطير، وهو وجود بالوعات مجارى مرتفعة عن سطح الأرض تعرض السيارات القادمة من أعلى الكوبرى لخطر جسيم.

وقد سارعت الأجهزة الأمنية إلى إلقاء القبض على سائق اللودر المتسبب فى كسر خط الغاز، وكذلك المهندس المسئول عن أعمال الحفر بالمنطقة.

وفى حادثة كوبرى الرحاب، طالب القائم بأعمال وزير الصحة وقتها الدكتور خالد عبدالغفار بمعاقبة المقاول المتسبب فى هذه الحادثة.

وقد أحسن المسئولون وقت حادثى كوبرى الرحاب وطريق الواحات أن سارعوا بالبحث عن المسئول والمطالبة بالمحاسبة وإقرار العدالة، إذ يجب وضع حد لمثل هذه الانحرافات الهندسية والأخلاقية التى صارت تهدد حياتنا اليومية، وتفسد بعضًا من أثر ما تم إنجازه فى مجالات الِبنى التحتية، يجب علينا الإفاقة حفاظًا على الأرواح، وحمايةً للمال العام.

• • •

علينا حساب المقصر والمتهاون والمخالف، سواء من القطاع الخاص أو العام، ممن تغافلوا، بقصد أو بدون قصد، عن مخالفات أودت بحياة مواطنين ومواطنات بلا ذنب، ينبغى أن يتم التعامل مع الانحرافات والتقصير وفق مبادئ المصارحة والشفافية تأكيدًا لمبادئ سيادة القانون والعدالة والمساواة.

وبالنسبة للقطاع الخاص، فإن سُمعة الشركة جزء من رأس مالها، وحماية المال العام تتطلب الإفصاح عن المقصرين والفاسدين، ويجب أن تنشر الجهات المسئولة قائمة سوداء بالمقاولين المقصرين والمتهاونين والفاسدين، وإنهاء كل أشكال التعاقدات معهم اليوم وفى المستقبل، هذا إلى جانب حصولهم على الجزاء العادل بقوة القانون والقضاء حال ثبوت التقصير بشكل عمدى أو التحقق من الإهمال الجسيم، وعلى الراغبين فى العمل والاستثمار مع الحكومة تحمل نصيبهم من المسئولية عن أدائهم.

• • •

لا أريد أن تتحول هذه الفواجع إلى مساحات لمناقشات أكاديمية مقعرة، فالحزن جاثم على نفوس المصابين وأهاليهم، وأهالى المتوفين، وقد يرى البعض أن لا مجال الآن للتنظير.

إلا أنه لا مفر من استخلاص العِبر والبناء على تجارب من سبقونا، وربما يحفظ هذا أرواحًا أخرى تهددها أيدى الإهمال أو الاستسهال أو الفساد، ونحن لا نختلف فى هذه الهموم عن غيرنا من دول العالم.

لقد صار التعاقد مع القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدنى لتقديم السلع والخدمات العامة هو الأساس فى عديد من دول العالم منذ ثمانينيات القرن العشرين، حتى إن مصطلح «الإدارة العامة» أو «الإدارة الحكومية» لم يعد مناسبًا لوصف واقع صياغة وتطبيق البرامج والسياسات العامة، حيث لم تعد الحكومة هى الطرف المسئول عن تقديم الخدمات العامة فى مجالات مثل الصحة والتعليم أو حتى إدارة السجون ومؤسسات رعاية الأحداث كما كان فى الماضى، فقد صارت الحكومة طرفًا فى علاقات تعاقدية مع أطراف أخرى من مؤسسات القطاع الخاص والمجتمع المدنى فى كثير من دول العالم.

ونتج عن هذا المشهد المعقد ظهور مصطلح «الحوكمة» governance، حيث لم يعد من المناسب الحديث عن إدارة عامة مع تراجع دور الحكومة كسلطة عليا تقوم على تقديم السلع والخدمات العامة بنفسها، فهى الآن طرف فى شبكات مع مؤسسات خاصة وأهلية تتطلب الكثير من الجهد الحكومى، وكذلك الكثير من الجهد من طرف المواطنين والمواطنات، لضمان توجيهها نحو تحقيق الصالح العام، ومع هذا التعقيد، ظهرت دراسات ومناقشات وقوانين تمد التزامات الحكومة تجاه المجتمع لتشمل القطاعين الخاص والأهلى، خاصة من المتعاملين مع الحكومة كـ«مقاولين».

فإذا كانت الحكومة ملزمة وفق ما يعرف بـ«قوانين الشمس المشرقة» sunshine laws بإتاحة بياناتها للمواطنين والمواطنات، فإن نفس الالتزام يقع على المقاولين الحكوميين، أى الذين تتعاقد معهم الحكومة لإنشاء كوبرى أو إدارة مستشفى على سبيل المثال.

وإذا كان من حقوق المواطن والتزاماته أن يشارك فى الرقابة على أعمال الحكومة بطرق شتى منها على سبيل المثال الإبلاغ عن المخالفات التى يجدها فى المؤسسة العامة التى يعمل بها، وهو ما يعرف فى أدبيات الإدارة العامة بـwhistle blowing، أو إطلاق الصفارة للإبلاغ عن المخالفات، مع وجوب حماية المبلغين، فقد صارت فكرة إطلاق الصفارة واجبة أيضًا ضد مؤسسات القطاعين الخاص والأهلى، خاصة من المتعاقدين مع الحكومة.

أقرت الحكومة الأمريكية، على سبيل المثال، الحماية للمبلغين عن تجاوزات المقاولين المتعاملين مع الحكومة، سواء من القطاع الخاص أو الأهلى، فى عدة قوانين ولوائح، منها لائحة المشتريات والتعاقدات الحكومية The Federal Acquisition Regulation، التى أقرت الحماية للمبلغين عن المخالفات فى الشركات والمؤسسات التى يعملون بها، سواء الخاصة أو الأهلية، كما أقر قانون Openness Promotes Effectiveness in our National Government Act أو Open Government Act لعام 2007، أن المقاولين من القطاعين الخاص والأهلى المتعاقدين مع الحكومة عليهم نفس التزامات الإفصاح التى يُلزمها قانون حرية تداول المعلومات على الحكومة الفيدرالية.

• • •

علينا أن نهتدى بهذه التطورات، خاصة ونحن على أعتاب حقبة برلمانية جديدة، وقد ناقش الحوار الوطنى قانون حرية تداول المعلومات، الذى من المفترض أن يضمن للمواطنين والمواطنات الإطلاع على كافة البيانات التى تتعلق بعمل أجهزة الدولة.

لدى أمل فى أن تشمل الأجندة التشريعية للمجلس النيابى الجديد اهتمامًا بوضع أُطر تشريعية مناسبة لضمان آليات حوكمة فعالة وتمكين المواطنين والمواطنات من مساندة الدولة فى إدارة المنظومة التى صارت أكثر تعقيدًا لتقديم السلع والخدمات العامة، وعلينا الاستفادة من تجارب من سبقونا، فلسنا خارج دائرة التطورات العالمية فيما يتعلق بإدارة شئون الدولة والمجتمع.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved