الشعائر الروحية تصبح طقوسا فولكلورية
علي محمد فخرو
آخر تحديث:
الخميس 25 يونيو 2015 - 10:50 ص
بتوقيت القاهرة
عندما تنقلب ممارسة الدين من شعائر روحية ذاتية، تسمو بجوارح وأفكار ونوازع الفرد الممارس نحو الأفضل والأنقى والأجمل، إلى طقوس فولكلورية، تخضع للعادات والتقاليد وهرج ومرج الآخرين المحيطين بذلك الفرد، فإننا نكون أمام ممارسة مشوهة تسلب الدين أهم ما يميزه: روحانيته وصفاؤه.
شهر رمضان قصد به أن يكون شهر ممارسة لشعائر روحية. فالشعيرة الأولى، شعيرة الصيام عن الطعام والشراب، هو لإعلاء إرادة الانضباط فوق ضعف الانفلات الغريزى، وهو تذكير شعورى تضامنى بجوع الآخرين من فقراء ومهمشى هذا العالم المفروض عليهم من قبل أنظمة وقوى غير عادلة وفاقدة لدفء التضامن الإنسانى، وبالتالى تذكير بمسئوليتنا الأخلاقية والنضالية فى أن لايوجد مثل هكذا جوع ولا هكذا من الجائعين.
لكن تلك الشعيرة، شعيرة التطهر الروحى والنفسى، انقلب إلى واحدة من الطقوس الفولكلورية: فالجوع أثناء النهار حلت محله تخمة الليل من خلال إفطار مبالغ فى أنواع مكوناته وكمياته، لتتبعه بعد ذلك ولائم غنية أخرى أثناء مشاهدة التلفاز أو إبان زيارة الآخرين. أما التضامن – الروحى والعاطفى مع الفقراء والمعوزين، فيعبر عنه بإرسال ما يزيد من الطعام إلى بيوت الفقراء أو إقامة سرادق مذل لمنكسى الرؤوس من المعوزين. وعندما ينتهى رمضان يعود المعوزون إلى جوعهم وحرمانهم طيلة الشهور القادمة وهم يستمعون، سنة بعد سنة، إلى ثرثرة الحكومات والمنظمات حول العمل على تخفيض أعدادهم وإنهاء العار الذى يلبسون.
أما الصائمون من غير الفقراء فينسون التزاماتهم ومسئولياتهم الدينية تجاه الفعل النضالى السياسى والمجتمعى المستمر المطلوب، لحل قضية الفقر والفقراء، والتى لن قد تخفف من ويلاتها صدقة من هنا وصدقة من هناك، ولكنها لن تحلها حلا جذريا يقتلعها من مجتمعات المسلمين.
والشعيرة الثانية، شعيرة الصوم عن كل ما يدنس النفس الإنسانية من أنانية وكذب وكره وحقد وممارسة شتى الرذائل الأخرى، أى محاولة عيش القيم والأخلاق الربانية، فإنها تستعصى علينا حتى أثناء شهر واحد فى السنة. فالتاجر يحتكر ويرفع الأسعار ويعتبر تلك الرذيلة شطارة غير مفطرة. والطائفيون يؤججون الصراعات العبثية ومشاعر الكره وخطابات التنابز ولا يرون فى ذلك تعارضا مع وحدة الدين وتعاضد أتباعه. والجهاديون التكفيريون يرتكبون موبقات قطع الرؤوس وسبى النساء واختطاف الأطفال باسم قراءة متخلفة للقرآن والسنة والفقه، ولا يرون فى ذلك تعارضا مع الصوم عن ارتكاب الخطايا والفواحش والفساد جميعهم يحلون طقوس الثقافة البدائية المشؤهة مكان شعيرة الصوم التطهيرى للسان والعقل والعواطف.
وهكذا، فلا الصيام عن الأكل والشرب ولا الصوم عما يدنس الروح، يمارسان كشعيرتين روحيتين وإنما يمارسان كأشكال من الطقوس الانتهازية، التى تراكمت فى العقل الجمعى العربى عبر القرون.
•••
شهر رمضان قصد به أيضا أن يكون شهر عبادة تأملية، يهدأ أثناءها الجسد بغرائزه والذهن يقلقه. والعبادة التأملية لا تتم فى أجواء السرعة والاستعجال وعدم التمعن.
ولذلك فعندما تنقلب صلاة الجماعة، أثناء صلاة التراويح مثلا، إلى تلاوة مستعجلة وخاطفة للنصوص القرآنية وإلى ركوع وسجود يماثل حركات الرياضة المدرسية، فإن العبادة لا يمكن أن تكون تأملية من خلال خشوع النفس وسلام الداخل.
حتى إذا ما انتهى من الصلاة تراكض القوم إلى سلسلة من زيارات لمجالس ترمز لسلطة وجاه ووجاهة أصحابها، وتختلط فيها المجاملات بالانتهازية بالتهام مزيد من الأكل والشرب.
وما أن ينتهى صخب الزيارات حتى يبدأ صخب مسلسلات التليفزيون التجارية المسطحة للثقافة، الكاذبة باسم التاريخ المحور والمختلطة مع هذيان دينى مشغول بالقشور والمظاهر التعبدية، وبعيد عن أعماق الإنسان وأعماق الوجود.
•••
وهكذا تضيع شعيرة العبادة التأملية، حيث اقتراب الأدنى بالأعلى، فى صخب الطقوس الفولولكلورية. إبان الأسابيع الماضية، استمع الناس عن طريق وسائل التواصل الاجتماعى، إلى عالم أزهرى يطالب بمراجعة تاريخ وضع صحيح البخارى وما جاء فيه. واستمعوا أيضا إلى باحث شيعى يطالب بمراجعة مصادر فقه الشيعة الأربعة، التى كتبت أيام الدولة البويهية. يسأل الإنسان نفسه: هل أن مراجعة مصادر الفقه الإسلامى، بمدارسه المختلفة، وتنقيتها مما علق بها من الإضافات عبر القرون، ستكون خطوة نحو إرجاع وهج الشعائر الروحية، لتحل محل هيمنة الطقوس الفولكلورية.
لا يوجد جواب سهل، إذ أن تاريخ الديانات يظهر أنها فى الأصل جاءت لتصلح الثقافات التى شوهتها القرون وأصبحت عبئا على الإنسان، لكن تاريخ البشرية يظهر أيضا أن مكر الثقافة ظل أقوى من نقاوة وبساطة الديانات. ألا يتوجه شهر رمضان المسلمين لينضم إلى ما فعله المسيحيون بذكرى ولادة المسيح التى انقلبت هى الأخرى من مناسبة شعيرة تعبدية إلى طقوس فولكلورية تعج بالتسوق الذى لا ينتهى والحفلات الصاخبة الممجدة لنهم الغرائز.
موضوع رمضان كله يحتاج إلى مراجعة موضوعية هادئة. فهذا الشهر الذى من المفروض أن يثور ثقافة الإنسان، أصبح شهرا ينامه.