جريمة المنصورة.. ومواجهة الضمير الجمعى
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
السبت 25 يونيو 2022 - 7:40 م
بتوقيت القاهرة
ــ 1 ــ
مع كل جريمة بشعة تنفجر فى وجوهنا من جرائم العنف العشوائى ضد المرأة (أو ضد أى إنسان مسالم أو بسيط كل ذنبه أنه «مسالم»، ويحاول أن يمارس حقه فى القبول أو الرفض لا أكثر!) يتأكد لى أن هذا المجتمع «المتدين بطبعه.. المسالم اللطيف» يسبح فوق بحر عارم من الكراهية القاتلة، والعنف الوحشى، والتعصب المقيت والتطرف.. ويشيع فى نطاقاتٍ واسعة منه ــ خاصة فى الأرياف والصعيد والمناطق مرتفعة الكثافة والعشوائيات ــ سلوكٌ عام جمعى مطبوع على العنف الوحشى، والغضب الهادر، لأتفه الأسباب، وكذلك البذاءة التى تصيبك لأدنى هفوة!
وكل ذلك نتاج السياسات الفاشلة والمتخبطة والمهملة (خاصة فى الجانب الاجتماعى) التى أفضت إلى تسييد منطق «القوة» وحدها، والإيذاء اللفظى والبدنى كسبيلٍ وحيد لرد الاعتبار (وأكرر كسبيل وحيد لرد الاعتبار)، والاتكاء على النفوذ أو البطش أو التنكيل فى حسم الخلافات أو الخصومات الفردية أو الجماعية على السواء.. كل ذلك فى مقابل تغييب كل القيم الإنسانية التى يجب غرسها منذ الميلاد، وفى التعليم، ومن خلال مؤسساته المعروفة (المدرسة والجامعة)، وفى الممارسة الاجتماعية الفردية والعامة على السواء، وعلى رأسها احترام قيمة الإنسان بغض النظر عن لونه أو جنسه أو معتقده أو عرقه.. إلخ. واحترام حقه فى القبول والرفض، حقه فى مساحة الخصوصية التى يحددها، فى معتقده الذى يريد، فى ممارسة حياته بالطريقة التى يحب دون اعتداء أو فرض أو قهر أو أى شىء آخر يحد من ذلك عليه أو على غيره!
ــ 2 ــ
فى جريمة قتل فتاة المنصورة البشعة، يقرأ صديقى الناقد الكبير محمد بدوى الحادث من منظور سوسيولوجى ونفسى عميق. بعد أن قرأ ما حول الواقعة، من كلام القاتل، ومن كلام أسرته، وكلام صديقة الضحية، يبدو أن السبب ذاتى، لا لأن القاتل مختل أو مجنون، بل لأنه ابن ثقافة محددة تمنح الذكر حقوقا تجعله حين يواجه مشكلة، يذهب إلى الحل السهل، أى «القتل».
كيف يمكن لذكر أن يحترم أنثى وهو يراها محض جسد لإرواء المتعة وإشباع الغريزة. وكل مفردات الثقافة التى يحيا فى ظلها تؤكد هذا المنحى، وتؤججه وترسخه، وعلى رأسها التأويلات والتفسيرات الدينية المريضة التى تختزل كل شىء وأى شىء يخص المجتمع فى إغواء المرأة، وجسد المرأة، والجنس والهوس به ولا شىء آخر!
البنت ــ رحمها الله رحمة واسعة وألهم ذويها الصبر والسكينة ــ جميلة، ويبدو أنها قوية الشخصية، والقاتل زميلها رآها فتهوس بها، ورأى فيها صورة للفتاة النموذجية التى تحضر فى أحلامه واستيهاماته الجنسية، فقرر أن يمتلكها. هو رجل ويمكنه دفع صداقها فلماذا ترفضه؟ لم يفكر أنه يجب أن يفتنها كما فتنته، لم يفكر أن لها الحق فى الحلم برجلٍ ما، كل ما فكَر فيه أنها جميلة، وعليه أن يمتلكها وفق نظرية «الأخذ» السائدة فى الثقافة، وبخاصة لدى الرجال، الرجال الأطفال الذين حين يرون لعبة يريدون شراءها وامتلاكها، لكن البنت الجميلة الأنيقة، والتى سيجبرها على ارتداء الحجاب، وربما النقاب حين تصير ملكه، الفتاة المصرة على حقها فى اختيار رجلها، رفضت. رفضت تعنى هنا أنها لم تعتبره ذكرا.. فما الحل هنا؟
لا شىء سوى القتل!
ــ 3 ــ
كيف لفتاة أن تمارس حقها الفطرى والطبيعى والإنسانى فى الرفض! رفض أن تكون زوجة لشخص لا تريده! ليس الرفض فى مجتمعنا البائس بالأمر الهين ولا المألوف ولا المقبول، إنه فى الواقع ثورة غير متوقعة تُذهل أصحاب الثقافة السائدة، وتصدمهم، وتجعلهم يردون بعنف غير مسبوق!
وكالعادة المرذولة القبيحة فى مجتمعنا، تكون بوادر هذا العنف (قبل خطوة القتل المباشر) أن تغمغم الألسنة بالشائعات والشكوك وتختلق الأوهام، وتطعن البنت فى شرفها ومظهرها، قبل أن تطعنها فى قلبها أو تفصل رأسها عن جسدها! (لمن لا يصدقنى يراجع آلاف التعليقات المرعبة على صفحات السوشيال ميديا التى يصب أغلبها فى اتجاه إدانة البنت والحكم عليها والتماس مبرر لقاتلها بل تمجيده!) وفى غمضة عين تصبح الفتاة الضحية، المجنى عليها، تصبح ملعونة متهمة فى عرضها وشرفها، وحسبنا الله ونعم الوكيل فعلا!
كيف لمواطن بسيط أن يحيا فى أمان ويحافظ على أبنائه ويحوطهم برعايته، وهو يعيش فى رعب دائم ومتجدد من أن يصيب ابنه أو ابنته أذى ــ أى أذى ــ فى حادثٍ عبثى أخرق لا معنى له ولا منطق على يد مهووس أو مجنون أو مختل أو متطرف أو أى نموذج آخر من النماذج المرعبة المنتشرة الآن والسائدة.. كل هؤلاء ــ فى النهاية ــ هم نتاج الثقافة المتردية التى حاصرتنا من كل جانب، ثقافة تقوم على الانغلاق والرفض المعتوه للآخر.
وهم أيضا نتاج التعليم الردىء الذى يفسد الوعى ولا ينوره، ويسلم أبناءنا وبناتنا لقمة سائغة لتيارات التدين الأعمى والمنقوص والجاهل، ونتاج عمليات الترييف القاسية والشاملة التى مورست، وما زالت، على كل المستويات، فذهبت بآخر ما تبقى من خيوط زاهية أنتجتها ثقافة حقيقية سادت وعبرت عن نفسها فى النصف الأول من القرن العشرين.. كل ذلك القرف الذى نعانيه منذ السبعينيات وحتى الآن.
ــ 4 ــ
إن نجاح أى نظام سياسى مرهون بالأساس فى وضع اليد على الأسباب الحقيقية والجوهرية على التصدعات والشروخ المجتمعية التى تعود بجذورها إلى عقودٍ طويلة مضت، بل ربما إلى قرون، لكنها تضاعفت واستفحلت، فى سنواتٍ قليلة، تنذر بخطورة مضاعفة وتأثيرات مريعة فى المستقبل القريب. البداية دائما، ولا بد، أن تكون تشخيصا سليما وقراءة دقيقة ومحايدة تخلو من التلوين والتعسف ولىِّ الحقائق والتجافى عن الواقع والوقائع، البداية دائما تكون بالاعتراف بوجود الأزمة، لا إنكارها أو التغاضى عنها وإهمالها بالكلية، وكأن «الحياة لونها بمبى» و«كله فى السليم»!
ورحم الله الفتاة المغدورة وألهم ذويها الصبر والسكينة والسلوان.