العنف لا يولّد سوى العنف
سمير العيطة
آخر تحديث:
الأحد 25 يونيو 2023 - 6:50 م
بتوقيت القاهرة
على وقع أحداث روسيا، وربمّا السودان أيضا ودول أخرى حول العالم، عاد الحديث عمّا تعنيه الدولة وجيشها من حيث احتكار العنف الشرعى. والحديث عن مصير ميليشيات خاصّة أو قوى محليّة ظهرت بدعم محلى أو خارجى تحاول فى مرحلة ما الانقضاض على السلطة المركزيّة أو خلق كيان انفصالى.
هذه المسألة لها وقعٌ خاصّ فى سوريا ولبنان. حيث غدت قلّة من بنات وأبناء البلدين تتذكّر لماذا يتمّ الاحتفال بعيد الجيش بالتحديد فى الأوّل من أغسطس.
كان الانتداب الفرنسى قد أنشأ قوّات خاصّة على أسس طائفية ونزعات قومية (كردية، شركسية، أرمنية، مارونية، علوية، عشائرية، درزية، إلخ) شكّلت عماد جيشه فى الشرق. وطالب برلمانا البلدين وحكومتاهما بتسليم هذه القوات لهما مع دعم جماهيرى كبير، خاصّة بعد هزيمة ألمانيا النازيّة فى مايو 1945 ومشاركة البلدين، المستقلّين رسميّا منذ إعلان الجنرال كاترو واعتراف الجنرال ديجول فى 1941، فى تأسيس الجامعة العربيّة والأمم المتحدة. ورفض البلدان إقامة قواعد عسكرية بالمقابل كما رفضا استمرار هيمنة فرنسا على التعليم كما على المؤسسات الاقتصاديّة والمصارف. لقد عزّزت فرنسا قوّاتها بجنود أغلبهم سنغاليون وحاولت بثّ فتنة طائفيّة وانتهت المواجهة بقصف الجيش الفرنسى للبرلمان السورى فى 26 مايو وقتل حاميته من الدرك السوريين ونهب محتوياته، وكذلك مناطق أخرى فى دمشق وغيرها من المدن. تدخّل الجيش البريطانى لوقف إطلاق النار وإعادة جميع القوّات إلى ثكناتها، لينتهى الأمر بقبول فرنسا فى يوليو بتسليم القوّات الخاصة، بعد أن هرب كثيرٌ من أعضائها لينضموّا لدولتيهما وأعطت فرنسا الخيار للبعض منهم للذهاب إليها.
هكذا كان على البلدين انطلاقا من الأول من أغسطس 1945 تأسيس جيش موحد ذى توجه وطنى انطلاقا من «ميليشيات» أُسّست أصلا على التفرقة. مهمة لم تكن سهلة ولم تأخذ حقها من المراجعة التاريخيّة حول نجاحاتها وأشكال فشلها، وخاصة من حيث دور هذا الإرث فى الانقلابات ومحاولاتها الفاشلة فى لبنان، وعلى «تسييس» الجيش الذى أطلقه أكرم الحورانى فى سوريا، كما على انقسام الجيش اللبنانى وانهياره خلال الحرب الأهلية. ثم عاد لبنان بعد انتهاء تلك الحرب فى أوائل تسعينيات القرن الماضى لذات الجهد لإنشاء «جيش وطنى» ضم ضباطا تدربوا فى سوريا وإيران... وآخرون فى «إسرائيل»، ضباطٌ خاضوا معارك ضد بعضهم البعض. جهد لم يكن أيضا هيّنا. وجهدٌ ما زال مطروحا بقوّة فى لبنان اليوم حول «المقاومة» والجيش ومفهوم الأمن القومى المشترك، خاصّة فى ظلّ الانهيار المالى وتمويل دول خارجيّة حتى لأجور العاملين فى القوّات المسلّحة. وسوريا ستواجه أيضا، إذا ما عادت لها وحدتها المأمولة، ذات الجهد فى ضمّ «الميليشيات» المنفلتة فى مناطق النفوذ المختلفة ضمن الجيش السورى أو حلّها. جهدٌ يرتبط بشكل وثيق بالتواجد الروسى والإيرانى والتركى والأمريكى فى البلاد.
هذا الجهد طُرِحَ، وما زال، فى عراق ما بعد الغزو الأمريكى وحربه الأهلية، وفى ليبيا، وسيُطرح حتما إذا توقفت حرب اليمن واستعاد وحدته.
• • •
فى الحقيقة، تطرح قضية احتكار الدولة وجيشها للعنف الشرعى إشكاليّات متعدّدة. أوّل هذه الإشكاليّات أنّ هذه «الشرعيّة» تعتمد على الرأى العام الوطنى وتقبله لمقتل أبنائه فى صراع داخلى أو خارجى. هكذا تمّ إنشاء جيوش مرتزقة عامة أو خاصة، حتى فى الدول الديموقراطيّة، للقيام بمهمات لا يتقبلها هذا الرأى العام ولا هيكلية الجيش الرسمية. من «الفيلق الأجنبى الفرنسى» إلى «كينى مينى» البريطانية و«بلاك واتر» الأمريكيّة (التى أضحى اسمها «أكاديمى» ثمّ «كونستيليس») إلى «فاغنر» الروسيّة... هذا فى ظل غياب إطار قانونى واضح، وطنى ودولى، وسريّة حول سبل تمويل جيوش المرتزقة هذه أو حول محاسبتها على انتهاكاتها... وهذه حال «قوّات الدعم السريع» السودانيّة التى استخدمت للقضاء على التمرّد فى دارفور ثمّ تمرّدت على الجيش السودانى.
ثم ماذا عن «شرعية العنف» فى قمع تمرّد داخلى أو أعمال شغب أو ثورة؟ ليس هذا الأمر حكرا على الجيش، بل عمل كثير من الدول على تطوير قوّاتها الأمنيّة (الشرطة، الدرك، والمخابرات) بشكلٍ كبير كى تقوم بهذا الدور، لتجنّب زجّ الجيش الوطنى فيه. هذه إشكاليّة أكبر، تمتزج فيها العناصر الداخليّة كما الخارجيّة. فهل «العنف» الذى تأمر به سلطة مهيمنة على الدولة فى بلد لقمع انتفاضة شعبية تطالب بحريّات أساسية «مشروع؟» وإلى أى حدّ من الإفراط؟ وهل بالمقابل، يُمكِن لأطراف خارجية أن تُسلّح تمردا داخليّا وأن تروج أنه «وطنى» يواجه جيشا «فئويا؟» هذه الإشكالية كان لها فعلها فى صلب تحول «الربيع العربى» فى كثير من بلدانه من انتفاضات من أجل الحرية والكرامة إلى حروب أهليّة بدفع من «غباء» السلطات القائمة من ناحية ومن التدخل الخارجى من ناحية أخرى. فهل كان قصف الجيش الليبى المتوجّه إلى بنغازى للقضاء على التمرّد مشروعا بالأعراف الوطنية والدولية؟ علما أن قرار مجلس الأمن كان يمنع فقط الطيران. والنتيجة أن بلدانا دمرت وشعوبا جوِعَت فى ليبيا واليمن وسوريا من أجل أطماع «سلطة» وكذلك أطماع دول خارجيّة... ما زالت ذات حضور أكبر اليوم.
إشكاليّة أخرى تتعلّق «بالعنف الناعم»، أو «القوة الناعمة»، مقابل «العنف الغليظ» بالسلاح. هكذا تمول الدول أو الشركات والمؤسسات الثريّة جماعات وأحزابا سياسيّة وجمعيّات فى دول أخرى بهدف الدفاع عن أقليات أو نهج سياسى أو مجتمع مدنى. وتمول زعامات محلية جماعات للإبقاء على نفوذها. فكيف التمييز بين ما هو فعلا من أجل حريّات وحقوق وبين ما يذهب لفرض نفوذ يؤجج صراعا داخليّا؟ وما الشرعى فيما يُمكِن السماح به وما يجب ضبطه؟ وهنا أيضا تجدر ملاحظة التمويل الخارجى الكبير لأحزاب سياسيّة معينة بعيد انطلاق «الربيع العربى»، وكذلك الهيمنة عبر المال والخدمات لأمراء الحرب فى لبنان الذين أخذوا البلاد إلى الاستعصاء الحالى.
• • •
هذه الإشكاليّات قائمة فى صلب مسائل استقرار الدول وسيادتها ولعبة الأمم فى العصور الحديثة. وفى ظلّ واقع قلة أو انعدام التطرق لها بشكل منهجى، حتى عبر سبر تاريخها، لا بد من تثبيت بعض الملاحظات الأساسيّة.
إن العنف، حتّى لو كان «شرعيا»، لا يولّد سوى مزيد وتصاعد فى العنف وضغائن تتفجر يوما. واستخدام السلاح حتى لمواجهة عنف «شرعى» يأخذ صاحبه للتبعية لمن يُعطى السلاح والمال. والحذر ضرورى من «العنف الناعم» لأنه يأخذ من يتلقى أمواله إلى تبعية لمموّليه، وما يقوض أسس بلاده.
كذلك لا تأخذ جيوش المرتزقة، العامة أو الخاصة، إلا إلى أزمات تهدّد فى النهاية الدولة التى أنشأتها. ولا أفق للميليشيات التى تُخلَق فى ظروف الصراعات الداخلية سوى الاندماج فى مؤسسات الجيش أو الانحلال. اللهم إلاّ فى حال خلق كيان انفصالى فى ظل حماية دولة خارجيّة. ولا يأخذ انخراط الجيش والقوى الأمنيّة فى الصراعات السياسيّة وكذلك فى المال والاقتصاد سوى... إلى انحلال الدولة.
وفى النهاية، لا شىء يعادل تدمير بلد وتجويع شعوب، لا شرعية احتكار الدولة للعنف ولا الأوهام التى تخلقها القوى الخارجية، باستخدام العنف الغليظ... أم الناعم.