بين قوسين.. كيف نقاوم التسميات الاستعمارية؟

عماد عبداللطيف
عماد عبداللطيف

آخر تحديث: الأربعاء 25 يونيو 2025 - 8:40 م بتوقيت القاهرة

تحكى رواية روبنسون كروزو عن تاجر عبيد بريطانى، يهجم بسفن مسلحة على شواطئ إفريقيا؛ ليخطف الأطفال والنساء والرجال، ويشحنهم كالبهائم فى قاع السفن، ويبيعهم فى أسواق العبيد. تحطمت سفينته على جزيرة من جزر البحر الكاريبى، وحين رمت الأقدار بواحد من السكان الأصليين فيها، اتخذه عبدًا، وكان أول ما فعله أن سلبه اسمه الذى ولد وعاش به، وأطلق عليه اسمًا غربيا جديدًا (فرايدى)، وأجبره على تغيير هويته، والتخلى عن ثقافته، وعقائده.

أصبحت الرواية الغربية الشهيرة علامة على عصر كامل لا نزال نعيشه، هو عصر الاحتلال الغربى للعالم. وعلى الرغم من التحرر الشكلى من الاستعمار، فإن معظم دول العالم لا تزال خاضعة للهيمنة والنفوذ الغربيين. والدول التى تتمرد على الهيمنة، تتعرض مباشرة للتدمير والاحتلال. وقبل أن يطال التدمير المدن والعمران يطال العقول والأرواح. وتبدو قصة روبنسون، تاجر العبيد المتوحش، دالة فى هذا السياق. فهى تكشف عن كيفية عمل الاستعمار بآلياته، وغاياته، وأساليبه. فقد كانت السفن الحربية وسيلة الاستعمار، وكان نهب ثروات الدول غايتها، وكان الكذب، وإعادة تسمية العالم القديم سياستها فى ادعاء ملكيتها للعالم القديم. وحول سياسات التسميات الاستعمارية، وكيفية التعامل معها فى وقتنا الراهن يدور هذا المقال.
• • •
قبل أن تنتهى العصابات الصهيونية من احتلال فلسطين عبر سلسلة المجازر المعروفة، كانت قد بدأت احتلال الذاكرة العامة، ومحو التاريخ. استعملت فى سبيل ذلك استراتيجيات خطابية معقدة، من أهمها إعادة تسمية كل ما يُسمَّى من مدن وقرى وجبال وأنهار وشوارع ومعالم وغيرها. استهدف الكيان محو التسميات الأصلية المستقرة قبله بآلاف السنين، وإنشاء واقع لغوى جديد، يخدم مشروعه الاستيطانى. خلال عملية محو ذاكرة المكان استدعى الاحتلال أساطير العهد القديم؛ ليربط بين كيانه الاستيطانى الجديد، وحكايات العهد القديم الخرافية التى تدفع البشرية كلها ثمنًا لها. وخلال العقود الثمانية الماضية تمكَّن الكيان من فرض تسمياته، وتوارت التسميات القديمة، بما تحمله من معانٍ ورموز ودلالات ثقافية وتاريخية.

لقد تعاظمت قوة الكيان نتيجة تحالفه مع الغرب الاستعمارى، وقيامه بأداء وظائفه القذرة، بحسب لغة المستشار الألمانى فريدريش ميرتس. ولم يعد يتغول على البلدان العربية والإسلامية فحسب، بل على شعوب العالم التى تنتقد جرائمه. وفى هذه اللحظة الحرجة من الصراع، يتعين على جميع البشر مقاومة الظلم الذى يمارسه الكيان الإجرامى تحت عباءة الغرب الاستعمارى، والتسمية ميدان مهم من ميادين المقاومة.

الأقواس الهلالية ومقاومة الظلم الخطابى

أقترح طريقة بسيطة تمكِّن كل شخص رافض للاحتلال الاستيطانى من مقاومة الاحتلال اللغوى الذى فرضه الـكيـان. سأسمى هذه الطريقة «بين الأقواس»؛ وأعرفها بأنها كتابة التسميات الأصلية التاريخية متبوعة بالتسمية التى فرضها الاحتلال، بعد وضعها بين قوسين هلاليين. على سبيل المثال، بدلًا من أن نكتب: تـل أبـيـب، نكتب يافا (تـل أبـيـب)، وبدلا من أن نكتب: إيلات، نكتب: أم الرشراش (إيلات)، وبدلا من أن نكتب: كريات شمونة، نكتب: الخالصة (كريات شمونة). كذلك تتطلب هذه الطريقة ذكر الاسم التاريخى وحده، حين تكون شهرته واستقراره إلى درجة لا يُحتاج معها إلى ذكر الاسم الذى فرضه الاحتلال، كما هو الحال مع اسم مدينة القدس، التى حاول الاحتلال فرض تسمية أورشليم عليها دون أن ينجح فى ذلك، بفضل تمسك العرب والمسلمون بالاسم الأصلى للمدينة المقدسة. ومن الضرورى التوقف عن استعمال التسمية العبرية نهائيًا، والتمسك بذكر الاسم الأصلى فقط. يمكن أن تُطبق هذه الطريقة على جميع التسميات التى فرضها الاستعمار فى أرجاء العالم، مهما كانت التسمية التى أطلقها المحتلون الغربيون شائعة ومشهورة.

تهدف هذه الطريقة إلى إبقاء الذاكرة الإنسانية حية، واستدعاء التسميات الأصلية، ومقاومة الظلم التاريخى، وخصوصًا بعد زمن سيطرت فيه التسمية الصهيونية بمساعدة الإعلام الغربى، وإهمال المؤسسات العربية، حتى غدت الأجيال الجديدة تجهل الأسماء العربية، وتستخدم التسميات الصهيونية؛ لأنهم لا يعرفون غيرها. كما تساعد هذه الطريقة فى نشر ثقافة المقاومة بمستوياتها المختلفة وشمولها كل فئات المجتمع؛ حتى تصير ثقافة شعبية، تقوم على فكرة مخالفة المحتل. وتتسم هذه الطريقة بالبساطة والمشروعية. فهى بسيطة لا تتطلب إلا معرفة التسميات الأصلية، ووضع تسميات الاحتلال بين قوسين. وهى مشروعة، لا تتعارض مع أى مواثيق دولية. فالأصل أن تُستدعى التسميات الأصلية للأماكن إذا جرى تغييرها نتيجة الاحتلال أو الاستيطان. وذكر الاسم التاريخى والاسم الذى فرضه المحتل فعل عادل وإنسانى، ينتصر للضعفاء الذين سُلبت أراضيهم وأوطانهم. علاوة على ذلك، لا تتسبب طريقة الأقواس الهلالية فى أى سوء فهم، أو غموض فى الخطاب. فالقارئ سيتمكن من معرفة المشار إليه بالاسم سواء كان يعرف التسمية الأصلية أم لا. وهذا الحرص على دقة الفهم، هو ما يقلل من فاعلية ذكر الاسم التاريخى وحده، وهو ما تقوم به بالفعل بعض وسائل الإعلام.

مقترحات عملية لتفعيل الاقتراح


هناك مقترحات عملية لتفعيل طريقة بين الأقواس، بما يتيح التخلص من الظلم التاريخى الذى تعرضت له الأسماء الأصلية فى فـلـسـطـيـن:
المقترح الأول أن تقوم جامعة الدول العربية بتبنى طريقة بين الأقواس فى وثائقها الرسمية، وأن توصى الدول الأعضاء بالأخذ بها فى خطاباتها الرسمية. وأقترح أن يُرفع الأمر إلى المؤسسات الدولية كذلك لبيان مشروعية هذه الخطوة، وعدم تعارضها مع أية قوانين دولية، واكتساب الحق فى ممارستها فى الوثائق التى تصدر عن مؤسسات دولية.

المقترح الثانى تغيير طريقة كتابة أسماء المدن الفلسطينية فى مقررات التعليم. ومن الضرورى أن تقوم المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الأليكسو)، والمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم (الإيسيسكو) بدور إرشادى فى هذا المجال. ويمكن أن يُناقش المقترح فى المؤتمر السنوى لوزراء التربية والتعليم العرب، ويُتخذ قرار بشأنه.

المقترح الثالث يخص المؤسسات الفاعلة فى إنتاج الخطابات العمومية. فيُمكن للكتاب العرب، والفاعلين فى وسائل التواصل، القيام بدور فى تصحيح هذا الظلم التاريخى للتسميات العربية. ويمكن لاتحادات الكتاب، ونقابات الصحفيين أن تصدر توصيات بهذا الشأن، وأن يكون لاتحاد الكتاب العرب دور فى إعداد قوائم الأسماء التى سعى الكيان لمحوها من الذاكرة العربية، وحث الكتاب على استعمال طريقة الأقواس لمقاومة فقدان الذاكرة. وتعميم هذه الطريقة على التسميات التى تركها الاستعمار الغربى فى أرجاء العالم العربى كله.

إن تصحيح الظلم اللغوى ضرورة لتصحيح الظلم المادى الذى تعرض له ملايين البشر فى الأراضى المحتلة، والبدء بإحياء الذاكرة ضرورة لاسترداد الحقوق المسلوبة، وأرجو أن يكون تصحيح اللغة التى نتحدث بها خطوة نحو تغيير الواقع الذى نعيشه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved