الجسد لا يغيب عن أحلام اليقظة.. وجه آخر لشرود الذهن وتأثيره النفسى

مواقع عالمية
مواقع عالمية

آخر تحديث: الأربعاء 25 يونيو 2025 - 8:45 م بتوقيت القاهرة

نشر موقع psyche مقالًا للكاتبة ليا بانيليس عن العلاقة بين العقل والجسد، حيث إن شرود الذهن نوع من الانفصال عن الواقع، لكن أبحاثًا حديثة تقترح أنه ليس مجرد هروب ذهنى، بل تجربة تتقاطع مع الإحساس الجسدى وتكشف عن عمق العلاقة بين العقل والجسد ما يُعرف بـ«شرود الجسد» - أى وعى الشخص بأحاسيسه الداخلية أثناء التيه الذهنى - قد يحمل دلالات مهمة على الصحة النفسية، خاصة فى حالات مثل الاكتئاب أو اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه. فهم هذه الديناميّة يفتح آفاقًا جديدة للتعامل مع الانتباه والمشاعر من منظور يدمج بين الجسد والعقل.. نعرض من المقال ما يلى:
شرود الذهن وشرود الجسد: كيف تؤثر أحلام اليقظة فى صحتنا النفسية؟
حين ينقطع انتباهك عن المهام اليومية وتجد نفسك سابحًا فى الخيال أو التفكير، فأنت ببساطة فى حالة «شرود ذهنى». هذه الحالة، التى نعيشها جميعًا يوميًا بدرجات متفاوتة، غالبًا ما ترتبط بالتشتت أو الانفصال عن الحاضر. لكن ماذا لو كانت أحلام اليقظة هذه تكشف أيضًا عن طبيعة أعمق لعلاقتنا بجسدنا ومشاعرنا، وتلقى الضوء على حالات نفسية مثل القلق والاكتئاب واضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه (ADHD)؟
فى دراسة حديثة أجراها باحثون بقيادة عالم الأعصاب المعرفية ميكا ألين من جامعة آرهوس فى الدنمارك، طُرح مفهوم جديد يُدعى "شرود الجسد" (Body-wandering) ، ويشير إلى تلك اللحظات التى أثناء شرود الذهن يصبح فيها الشخص واعيًا لأحاسيس جسده الداخلية، مثل ضربات القلب أو التنفس أو شعور المعدة. هذا المفهوم يفتح أفقًا لفهم أكثر تعقيدًا للعلاقة بين العقل والجسد والانتباه، وله تبعات مباشرة على الصحة النفسية.
العقل الشارد ليس معزولًا عن الجسد
لطالما اعتُبر "شرود الذهن" حالة عقلية منفصلة عن الجسد، كما لو أن التفكير يتحرر من القيود الجسدية. هذا التصور، المستمد من نظرة ديكارتية تفصل بين الجسد والعقل، ظل مهيمنًا فى علم النفس لعقود. لكن أبحاثًا حديثة –منها أعمال جوناثان سمولوود– أظهرت أن الشرود لا ينفصل تمامًا عن البيئة أو الحواس. على العكس، يمكن للأصوات والمشاهد أن تؤثر فى طبيعة الأفكار حتى فى أثناء أحلام اليقظة.
الدراسة الجديدة تذهب أبعد من ذلك، فتطرح سؤالًا: ماذا يحدث عندما لا تؤثر الحواس الخارجية فقط فى تيار وعينا، بل أيضًا الإشارات الداخلية للجسم؟ هنا يدخل مفهوم «الاستقبال الداخلى» (interoception) على الخط، وهو إدراكنا لما يجرى فى أعضائنا الداخلية.
منهجية الدراسة: تتبع العقل والجسد فى آن
اعتمد الباحثون فى دراستهم على عينة كبيرة تجاوزت 500 شخص، خضعوا لجلسة تصوير بالرنين المغناطيسى الوظيفى (fMRI) خلال حالة استرخاء. فى الوقت ذاته، تم قياس عدد من المؤشرات الحيوية، مثل ضربات القلب، والتنفس، ونشاط المعدة. بعد الجلسة، وبينما كان المشاركون لا يزالون داخل الجهاز، طُرحت عليهم أسئلة مفاجئة حول طبيعة أفكارهم خلال الفحص، وما إذا كانت مرتبطة بالجسد أو بالعواطف، إضافة إلى تقييم لاحق لأعراض الاكتئاب وADHD عبر استبيانات متخصصة.
نتائج مفاجئة: عندما يتداخل الجسد مع الشرود
أظهرت النتائج أن بعض المشاركين –رغم قلة عددهم مقارنة بمن شردوا فى أفكار اجتماعية أو زمنية - أفادوا بتجربة «شرود جسدى»، أى أنهم كانوا واعين لأحاسيس أجسادهم أثناء أحلام اليقظة. هذه الحالة ارتبطت بنشاط دماغى فى مناطق محددة مسئولة عن الإحساس بالجسد وتمثيل الأعضاء الداخلية.
المثير أن الذين أبلغوا عن «شرود جسدى» بدرجة أكبر كانوا أيضًا أكثر عرضة للتفكير العاطفى السلبى. وقد ظهر فى أدمغتهم ترابط أعلى بين الشبكات العصبية المعنية باستشعار الجسد والعمليات الداخلية. وهذا يشير إلى أن أحلام اليقظة ليست دائمًا تجربة عقلية مجردة أو هروبًا من الجسد، بل قد تكون أيضًا انعكاسًا عميقًا لحالة الجسد وتأثيرها فى المشاعر.
شرود الجسد.. سلاح ذو حدين؟
قد تبدو العلاقة بين شرود الجسد والانتباه للجسم إيجابية فى ظاهرها، لكن الواقع أكثر تعقيدًا. فالدراسة أظهرت أن هذا النوع من الشرود يحدث غالبًا بالتزامن مع مشاعر سلبية. وهذا يتوافق مع نتائج سابقة لباحثة تُدعى جوليا بويريو، حيث وجد فريقها أن الانتباه للجسد خلال الحياة اليومية يرتبط كثيرًا بحالات الضيق أو القلق.
بعبارة أخرى، فى بعض السياقات، يمكن لزيادة الوعى بالجسد أن تكون علامة على الضيق العاطفى، لا العافية. فعندما يشعر الشخص بتسارع ضربات القلب، أو بضيق فى التنفس، فقد يفسرها عقليًا كمؤشر خطر، ما يغذى أفكارًا سلبية أو قلقًا متزايدًا.
ADHD والاكتئاب
انخفاض فى «شرود الجسد» وارتفاع فى «شرود الذهن»، كشفت الدراسة أيضًا عن نمط مهم لدى من يعانون من أعراض ADHD أو الاكتئاب، لديهم معدلات مرتفعة من شرود الذهن، لكن منخفضة من شرود الجسد. وهذا يعكس تراجع قدرتهم على إدراك الإشارات الداخلية، وهى سمة شائعة فى اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه.
السبب المرجح لذلك يرتبط بنشاط الجهاز العصبى الذاتى، المسئول عن تنظيم العمليات الحيوية مثل ضربات القلب والهضم. فقد أظهرت الدراسة أن المصابين بالاكتئاب أو ADHD لديهم انخفاض واضح فى النشاط الفسيولوجى - وهى حالة تُعرف بانخفاض «الاستثارة الجسدية» (physiological arousal)، ونتيجة لذلك، حين يكون الجسد فى حالة خمول نسبى، تميل أفكار الشخص إلى شرود ذهنى غير مرتبط بالجسد.
العكس أيضًا صحيح: المشاركون الذين كانت أجسادهم أكثر نشاطًا فى الإشارات الحيوية، كانوا أكثر ميلًا لشرود الجسد. وهذا يوحى بأن التوازن الفسيولوجى قد يكون له دور فى توجيه الانتباه، إمّا نحو الجسد أو نحو أفكار مجردة.
تداعيات نظرية وعلاجية
الاستنتاج المهم هنا أن الجسد والعقل لا يعملان كيانين منفصلين، بل فى تفاعل دائم يعكس نفسه فى طريقة تفكيرنا ومشاعرنا وحتى فى نشاط الدماغ. هذا التفاعل ليس أمرًا ذاتيًا فقط، بل موضوعى يمكن قياسه.
على هذا الأساس، تقترح الدراسة أن انخفاض شرود الجسد، خصوصًا حين يترافق مع انخفاض النشاط الفسيولوجى، قد يكون مؤشرًا مبكرًا على تحديات نفسية طويلة الأمد، مثل الاكتئاب أوADHD . من هنا تنبثق أهمية النظر فى استراتيجيات علاجية جديدة تُعزز وعى الإنسان بجسده، مثل التأمل الواعى، وتقنيات التنفس، والتدريب على الاستقبال الداخلى.
رسالة للقارئ: راقب شرودك
فى ختام المقال، يُوجّه الباحثون سؤالًا تأمليًا إلى القارئ: عندما يسرح ذهنك، هل تغوص فى التفكير المجرد فقط؟ أم أنك أيضًا تشعر بأنفاسك، أو دقات قلبك، أو أحاسيس فى معدتك؟ هل تُلاحظ أن مشاعرك السلبية ترتبط بإحساسك الجسدى أم أنك لا تنتبه لجسدك على الإطلاق؟
الوعى بهذه التفاصيل قد يكون نقطة انطلاق لفهم نفسك بشكل أعمق، وربما خطوة بسيطة نحو تحسين تركيزك وتنظيمك العاطفى، وحتى صحتك النفسية.
• • •
خلاصة القول، يتضح أن شرود الذهن ليس مجرد ظاهرة عقلية عابرة، بل تجربة معقدة تتفاعل فيها الأحاسيس الجسدية مع المشاعر والأفكار، وتشير إلى توازن دقيق - وربما هش- بين العقل والجسد. فبينما قد يرتبط الوعى الجسدى المؤقت بمشاعر سلبية، فإن غيابه المزمن قد يكون علامة على اختلالات نفسية أعمق. وتشير الأبحاث إلى أن تعزيز الانتباه للجسد قد يساعد فى تحسين التركيز والتنظيم العاطفى، ويفتح الباب أمام تدخلات علاجية جديدة تراعى الفروق الفردية فى كيفية عيشنا لأفكارنا وأجسادنا. بهذا المعنى، فإن فهم شرود الذهن والجسد لا يُسهم فقط فى علم النفس المعرفى، بل يمكّننا من الاقتراب أكثر من ذواتنا فى زمن يتطلب منا وعيًا داخليًا أكثر من أى وقت مضى.

ترجمة وتحرير: يارا حسن
النص الأصلى:

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved