سياسة الحد الأدنى.. ‎في شرح أسباب التحفظ المصري تجاه حكام سوريا الجدد

عمرو حمزاوي
عمرو حمزاوي

آخر تحديث: الجمعة 25 يوليه 2025 - 9:40 م بتوقيت القاهرة

‎بينما قرر عديد الحكومات العربية الانفتاح على حكومة أحمد الشرع وهيئة تحرير الشام فى سوريا، تمسكت مصر بموقف مغاير ثبت رجاحته.

‎تحفظت القاهرة على الخلفيات الأيديولوجية والتوجهات السياسية لحكام دمشق الجدد الذين ينتمون إلى تيارات تكفيرية ومتطرفة وعنيفة، وارتبطوا فى الماضى بتنظيمات إرهابية كالقاعدة وداعش، وتورطوا هم قبل وصولهم إلى السلطة فى أعمال إجرامية وانتهاكات ممنهجة لحقوق الإنسان فى المناطق السورية التى سيطروا عليها (وهو ما وثقته تقارير منظمات محلية وأجنبية كثيرة).

‎تحفظت القاهرة على الخلفيات والتوجهات غير منخدعة بالخطاب الإعلامى الجديد لأحمد الشرع (الجولانى سابقا) بتركيزه على قيم المواطنة والعيش المشترك والتسامح بين كل مكونات الشعب السورى.

‎فقد كانت المقدمات تدلل على نزوع الشرع وهيئة تحرير الشام إلى الانفراد بالسلطة ورفض اقتسامها واختزال إجراءات بناء التوافق الوطنى بشأن الدولة الجديدة فى سوريا وعقدها الاجتماعى مع المواطنين فى مظاهر شكلية واحتفالية لا مضمون لها. فقد عقد مؤتمر «الحوار الوطنى» فى فبراير ٢٠٢٥، واعترضت القوى الديمقراطية السورية على آليته ومحتواه. ثم أبعدت الوثيقة الدستورية (الإعلان الدستورى) التى صدرت فى مارس ٢٠٢٥ الانتخابات الرئاسية والبرلمانية لعدة أعوام إلى الأمام وأسست لبقاء الحكومة الحالية كسلطة أمر واقع.

‎كانت المقدمات تدلل أيضا على توجه هيئة تحرير الشام إلى السيطرة الأحادية على مفاصل الدولة من خلال تعيين عناصرها فى المواقع القيادية بالوزارات والأجهزة الحيوية، ودمج من شارك فى صفوفها من المقاتلين الأجانب (وظاهرة المقاتلين الأجانب تمثل سمة مشتركة بين تنظيمات كالقاعدة وداعش وهيئة تحرير الشام) فى بنية المؤسسات العسكرية والأمنية فى سوريا.

• • •

‎وقد كان للقاهرة كل الحق فى التحفظ على تلك المقدمات، وكل الحق فى الابتعاد عن الهرولة باتجاه انفتاح غير محسوب العواقب على حكام دمشق الجدد. وأضيف إلى أسباب قلق البدايات فى القاهرة حقيقة الارتباط الوثيق بين هيئة تحرير الشام وبين بعض القوى الإقليمية التى صاغت بعض سياساتها فى الشرق الأوسط مستندة إلى دعم تيارات وتنظيمات وميليشيات دينية متطرفة وتوظيفها لأهداف لا تنسجم مع مقتضيات الأمن القومى المصرى والنظرة المصرية لأمن واستقرار المنطقة وكلاهما يلزم بمواصلة حصار التطرف الدينى وتجفيف منابعه ومواجهة جرائم العنف والإرهاب الناجمة عنه.

‎أضيف إلى أسباب تحفظ وقلق القاهرة أيضا صمت حكام دمشق الجدد على الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على المنشآت والقدرات العسكرية السورية، وعلى توغل وحدات الجيش الإسرائيلى فى المناطق الجنوبية متجاوزة الجولان المحتل والمنطقة منزوعة السلاح، بل وعلى تقديم حكومة اليمين المتطرف فى تل أبيب لنفسها كحامية لسكان الجنوب من الدروز السوريين.

‎ثم وقعت اشتباكات «الساحل السورى» فى مارس ٢٠٢٥ والتى شهدت جرائم وانتهاكات واسعة من بعض عناصر نظام الرئيس السابق بشار الأسد وجرائم وانتهاكات أوسع وممنهجة من جانب عناصر متطرفة منتمية إلى أو متحالفة مع هيئة تحرير الشام ضد مدنيين من العلويين فى محافظات اللاذقية وطرطوس وحماة. والشاهد أن اشتباكات الساحل أظهرت، من جهة، ما يمكن تسميته «بالطبيعة الداعشية» للهيئة التى أطلقت العنان للعنف والقتل الطائفيين وتجاهلت تماما كونها تحولت من تنظيم متطرف أو ميليشيا مسلحة إلى حكومة بلد له نسيج وطنى ومجتمعى بالغ التنوع. كذلك أوضحت الاشتباكات، ومن جهة أخرى، كارثية السيطرة السريعة للهيئة على مؤسسات وأجهزة الدولة العسكرية والأمنية والتى وظفت فى إنزال الأعمال الإجرامية والانتهاكات بالسكان العلويين.

‎وبينما صدمت اشتباكات الساحل السورى وصدم تورط حكام دمشق الجدد فى عنف وقتل طائفيين بعض من هرول إقليميا ودوليا للانفتاح على أحمد الشرع وبحث عن صور مصافحات حارة معه فى «قصر الشعب»، كانت أسباب التحفظ والقلق فى مصر تشتد وتدفع القاهرة إلى الإفصاح عن مواقف مبدئية تدعو إلى الحفاظ على حقوق المواطنة المتساوية لكافة مكونات الشعب السورى، وترفض الجرائم والانتهاكات الطائفية التى تهدد العيش المشترك وتزج ببلد عربى شقيق إلى دوامات العنف الأهلى، وتطالب بمسار توافقى لبناء الدولة الجديدة وصياغة عقد اجتماعى عادل بينها وبين مواطناتها ومواطنيها.

• • •

‎وبينما رتبت اشتباكات الساحل السورى ضغوطا من قبل قوى إقليمية ودولية على أحمد الشرع للتحقيق فيما وقع من جرائم وانتهاكات ومحاسبة المتورطين، كانت القاهرة قد حسمت أمرها بترجمة تحفظها وقلقها المشروعين ورفضها المبدئى لتهديد المواطنة الجامعة فى سوريا إلى سياسة جوهرها هو «تعامل الحد الأدنى» مع حكام دمشق الجدد.

‎بالقطع لم تحل سياسة الحد الأدنى المصرية لا دون تكرر إدانة القاهرة للاعتداءات الإسرائيلية على سوريا، ولا دون التعاطى الإيجابى مع كل ما يخدم مصالح الشعب السورى كقرار إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب رفع العقوبات.

‎وقد عبرت بيانات وزارة الخارجية المصرية عن كل هذا خلال الأسابيع القليلة الماضية التى شهدت اعتداءات إسرائيلية غير مسبوقة على دمشق وعلى المناطق الجنوبية، وشهدت أيضا ما يشبه الاحتراب الأهلى بين الدروز والبدو فى السويداء وما حولها فى تكرار لاشتباكات الساحل السورى، وتخللها انفلات أمنى خطير فى عموم سوريا التى تتواتر بها اليوم أحاديث الانفصال فى الشرق (الأكراد) وفى الجنوب (الدروز) وفى الغرب (العلويون) ويتصاعد بها الشك العام فى رغبة وقدرة هيئة تحرير الشام على تجاوز طبيعتها الداعشية وتكوينها كميليشيا لكى تصير مؤهلة لحكم بلد ذى نسيج وطنى ومجتمعى بالغ التنوع.

‎ليست سياسة الحد الأدنى المصرية، إذا، سوى نتيجة مباشرة لعوامل تتعلق بالخلفية الإيديولوجية المتطرفة والتوجهات السياسية الباحثة عن الانفراد بالسلطة التى تعبر عنها هيئة تحرير الشام ولعوامل أخرى ترتبط بسيرورة الأحداث فى سوريا وما دللت عليه خلال الفترة الماضية من محدودية التزام الحكام الجدد بقيم المواطنة والعيش المشترك والتوافق المجتمعى ومن تداعيات كل ذلك على فرص الاستقرار فى سوريا والمشرق العربى ومن ثم على الأمن القومى المصرى بمعناه الواسع.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved