الإسكندرية وتدمير الهوية
طلعت إسماعيل
آخر تحديث:
الإثنين 25 سبتمبر 2017 - 9:30 م
بتوقيت القاهرة
«مدن قليلة لها هذه الروعة، هى التى دخلت التاريخ مثل الإسكندرية، تلك التى أنشأها الإسكندر الأكبر»، هذه كلمات خطها أ.م. فروستر، صاحب كتاب «الإسكندرية تاريخ ودليل» الذى قدم له الأديب البريطانى الشهير لورنس داريل (1912 ــ 1990) مؤلف «رباعية الإسكندرية»، والذى عاش فى المدينة حقبة من الزمن.
وحسب العديد من المراجع التاريخية والكتب التى تناولت الإسكندرية فإن المدينة التى بناها الإسكندر الأكبر عام 332 قبل الميلاد، وجد فيها عمرو بن العاص لحظة فتحها بعد نحو ألف سنة (642 ميلادية)، وفقا لرسالته الشهيرة للخليفة عمر بن الخطاب، ما يلى: «4 آلاف قصر، ومثلها من الحمامات، و12 ألف تاجر زيوت،و 12 ألف بستانى، و40 ألف دافع جزية يهودى، و400 مسرح»، ولك أن تتخيل حال المدينة فى ذلك الوقت.
اليوم تضم الإسكندرية 1135 مبنى فى قائمة التراث المعمارى التى وضعتها عام 2008 اللجنة الفنية الدائمة لحصر تراث الثغر، وهى اللجنة التى يرأسها الدكتور محمد عوض، ومن وقت لآخر تواجه موجات مد عاتيه، حولت بعضا من تاريخ أعرق المدن فى العالم إلى كومة من الأنقاض، سرعان ما يقام عليها عمارات، بطرق ملتوية لتناطح السحاب بلا أسس هندسية، فتميل على أجنابها كما حدث مع برج الأزاريطة، وغيره من المبانى التى يتم إزالتها قبل أن تنهار على رءوس سكانها.
وفى الأيام الأخيرة، ضربت الإسكندرية موجة جديدة من التخريب المتعمد لتراثها المعمارى، بعد هدم فيلا «أمبرون» بمنطقة محرم بك، التى عاش فى طابقها العلوى الروائى لورنس داريل اعتبارا من عام 1943 عندما جاءها فارا من اليونان عقب أن احتلها النازيون فى الحرب العالمية الثانية.
وطبقا لنقاش طويل، دار عبر الهاتف، مع الدكتور محمد عوض، الملقب بحارس تراث الإسكندرية، فإن القيمة التاريخية لفيلا «أمبرون» لا تقدر بثمن، فهى الفيلا نفسها التى بناها المهندس المعمارى الإيطالى ألدو أمبرون، وكان ينظم فيها صالونا ثقافيا يؤمه كبار المثقفين فى الإسكندرية، وبينهم الفنانة التشكيلية عفت ناجى وزوجها، رائد الدراسات الشعبية، سعد الخادم، كما كانت ملجأ لملك إيطاليا عمانويل الثالث، وعدد من الكتاب والفنانيين الفارين من النازية خلال الحرب العالمية الثانية.
الدكتور عوض أخبرنى أنه وفقا للحصر الذى تجريه لجنة حماية التراث، فإن عدد المبانى التراثية التى جرى هدمها فى السنوات الأخيرة بلغ 58 مبنى آخرها فيلا أمبرون، وهو ما دفع مثقفى الإسكندرية إلى اطلاق استغاثة، أشبه بالبكائية على مدينتهم التى يتم التلاعب بهويتها وتراثها المعمارى، وللأسف بـ«القانون»، العاجز عن منع هدم المبانى ذات الطرز المعمارية التى يصعب تعويضها، أو باستدعاء «الكاحول»، إذا ما حال القانون دون ذلك، وقائمة ما تم هدمه طويلة وبينها مبنى شيكوريل الذى بناه ثلاثة مهندسين فرنسيين، هم أيضا من بنوا دار القضاء العالى فى القاهرة، وكلية سان مارك بالإسكندرية.
لكن هل يكون الأمل فى التعديلات التى أجرتها وزارة الإسكان على قانون حماية المنشآت التراثية، وتستعد لإرساله إلى مجلس الوزراء خلال أيام تمهيدا للدفع به إلى مجلس النواب، حلا للمذبحة التى تتم للمبانى التراثية فى الإسكندرية وباقى المحافظات؟. هنا يتحدث الدكتور عوض عن ثغرات عديدة فى القانون القائم كفيلة بهدم أحياء تراثية كاملة، وهى ثغرات تكبل يد القضاة عن منع عمليات الهدم التى احترفها حفنة من المنتفعين، الساعين إلى الربح السريع، ولتذهب القيم الجمالية وهوية المدن إلى الجحيم.
ما يخشاه أستاذ الهندسة المعمارية أن تكون التعديلات القانونية على أكمل وجه، لكن ما أن تصل إلى مجلس النواب، حتى يتم تفخيخها وتفريغها من مضمونها، لأن توازنات القوى عادة ما تكون لصالح بعض أصحاب شركات المقاولات التى تتولى عمليات هدم المبانى القديمة وإعادة بنائها.
الحديث مع حارس التراث ذى شجون، فالرجل يئن من وطأة معاول الهدم التى تنال مبانى يعشق طرزها المعمارية ويحفظ تفاصيلها الإنشائية وهو الأستاذ بكلية الهندسة جامعة الإسكندرية، وقبل هذا وذاك أحد مثقفى المدينة الكبار، والذين نخشى أن يرفعوا «الراية البيضاء» إحباطا من الهجوم الضارى على هوية مدينة طالما عشقها المصريون على اختلاف أجيالهم.