تحديات نموذج الدولة الإنمائية فى القرن الحادى والعشرين
مصطفى كامل السيد
آخر تحديث:
الأحد 25 سبتمبر 2022 - 8:55 م
بتوقيت القاهرة
أتمنى أن تكون قضية نموذج التنمية الذى ينبغى أن تتبعه مصر واحدة من القضايا الهامة التى يتعرض لها المدعوون لمناقشة المحور الاقتصادى فى الحوار الوطنى المأمول، وكذلك فى المؤتمر الاقتصادى الذى تزمع الحكومة عقده قريبا. وليس الانشغال بهذه القضية انغماسا فى جدل لا طائل وراءه، بل هى فى الواقع طريق الخروج من الأزمة الاقتصادية الراهنة فى مصر، فإذا كانت السياسات الاقتصادية المتبعة طوال السنوات الماضية هى من أسباب هذه الأزمة التى تدعو مصر لطلب قرض جديد من صندوق النقد الدولى، فمن الواجب البحث عن بديل لهذه السياسات، وعن نموذج النمو الذى يمكن ليس فقط أن يخرجنا من الأزمة، ولكن أن ينقل الاقتصاد المصرى إلى مكانة أرقى فى الاقتصاد العالمى. ولا شك أن نموذج الدولة الإنمائية فى شرق آسيا هو حتى الآن النموذج الأنجح فى نقل الدول المستعمرة سابقا إلى مرتبة أعلى فى إطار التقسيم الدولى للعمل باعتبارها دولا صناعية جديدة، تحتل موقعا وسطا بين ما يعرف بالدول النامية والدول الأكثر تقدما، بل إننا إذا اعتبرنا جمهورية الصين الشعبية واحدة من الدول التى تبنت هذا النموذج، فهو ينقلها إلى مصاف الدول المتقدمة. السؤال الذى يطرحه هذا المقال هو ما إذا كان هذا النموذج الذى نجح فى القرن العشرين يمكن أن ينجح أيضا إذا تبنته دول أخرى فى القرن الحادى والعشرين؟
تقتضى الإجابة على هذا السؤال أولا تعريفا مختصرا لهذا النموذج، ثم طرح التحديات التى تواجهها محاولة الأخذ به فى القرن الحادى والعشرين، وكيف يمكن لدول الجنوب بما فيها مصر التغلب عليها.
ما هى الدولة الإنمائية؟
يمكن باختصار تعريف نموذج الدولة الإنمائية بأن لها أربع خصائص رئيسية، فهى أولا دولة تتمتع بالاستقلال النسبى فى مواجهة المجتمع، فهى ليست تحت سيطرة أى طبقة أو طائفة فيه، أو واحد من أجهزتها، وقيادتها السياسية، ثانيا تضع التنمية الاقتصادية بمعناها الصحيح كتحول هيكلى نحو اقتصاد صناعى أولوية أولى تكرس لها جل وقتها، وأدواتها فى ذلك ليست التخطيط المركزى على النحو الذى عرفه الاتحاد السوفييتى أو حتى الصين الشعبية قبل إصلاحات دينج هشياو بينج فى ١٩٧٨، وإن كانت تضع خططا للتنمية تستخدم فى تنفيذها بعض آليات السوق دون أن تترك لقوى السوق السيطرة على الاقتصاد وهى ثالثا دولة تملك جهازا بيروقراطيا يتمتع بالخبرة والرشادة، وهو الذى يشرف بالتعاون مع الشركات الخاصة الكبرى على تنفيذ هذه الخطط، وهى رابعا دولة نجحت بالفعل فى تحقيق التحول من دولة يعتمد اقتصادها على تصدير المواد الخام إلى دولة صناعية جديدة يمثل قطاع الصناعات التحويلية قسما مهما فى هيكلها الإنتاجى وعمالتها وصادراتها، وربما تنتقل بعد ذلك إلى اقتصاد يعتمد على الخدمات الإنتاجية، ويقترن ذلك كله بارتفاع مستويات المعيشة بما فى ذلك التعليم والصحة والإنتاجية للغالبية الساحقة من المواطنين والمواطنات.
هذا هو النموذج الذى اقترن تاريخيا باليابان، ثم بالنمور الآسيوية الأربعة وهى كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وإقليم هونج كونج، وظهر جيل ثالث له فى إندونيسيا والفلبين وتايلاند وماليزيا وفيتنام، وتقترب كل من الصين والبرازيل والمكسيك والهند منه، وإذا كانت هذه الدول نجحت فى تحقيق هذا التحول إلى دول صناعية جديدة، إلا أن عددا من الدول فى القارة الأفريقية ادعى الاسترشاد بهذا النموذج مثل جنوب أفريقيا وإثيوبيا ورواندا وبوتسوانا وموريشيوس، إلا أن أيا منها لم يحقق مستوى التحول الذى جرى فى دول شرق آسيا تحديدا، ولذلك يثور السؤال لماذا اقتصر نجاح هذا النموذج حتى الآن على تلك الدول وهل يمكن الأخذ بهذا النموذج فى ظل الأوضاع الجديدة فى القرن الحادى والعشرين؟
تحديات القرن الحادى والعشرين
هناك ثلاثة أنواع من التحديات تواجه الدول التى تتطلع للأخذ بهذا النموذج فى القرن الحادى والعشرين، يتعلق أولها باختلاف الظروف الدولية والإقليمية التى واجهتها دول شرق آسيا فى ستينيات وسبعينيات القرن الماضى عن الظروف التى تواجهها دول الجنوب فى الوقت الحاضر، ويعود ثانيها إلى ما فرضته ظروف العولمة والثورتان الصناعيتان الثالثة والرابعة على دول العالم ويعود ثالثها إلى الأوضاع الداخلية فى دول الجنوب.
فقد خضعت النمور الأربعة فى شرق آسيا للاحتلال اليابانى ثم الدخول فى فلك الولايات المتحدة أو حليفتها بريطانيا بعد ذلك، وكان لذلك آثار أولا على ارتباط اقتصادها بالاقتصاد اليابانى ونقل اليابان بعض أنشطتها الصناعية إلى تلك الدول، ثم كان من أثر الوجود العسكرى الأمريكى ثانيا فى كوريا الجنوبية وتايوان إدخال الإصلاح الزراعى فيهما فى فترة مبكرة مما سهّل توجيه الاستثمارات إلى الصناعة، ولكن الأهم من ذلك كله أن كل تلك الدول والتى مالت إلى الدول الغربية فى فترة الحرب الباردة تمتعت بمعونات كبرى اقتصادية وعسكرية هائلة ساعدتها على تركيز مدخراتها بتوجيه حكوماتها إلى قطاع الصناعة، كما كانت الأسواق الأمريكية مفتوحة أمامها. مثل هذه الظروف ليست متاحة الآن لكل دول الجنوب بحكم انتهاء الحرب الباردة، وأن المنافسة العسكرية مع الاتحاد الروسى أو الصين ليست هى الدافع الرئيسى للمعونات الاقتصادية التى ما زالت الولايات المتحدة تقدمها لبعض دول الجنوب، وليست بنفس ضخامة ما قدمته الولايات المتحدة على سبيل المثال لكل من كوريا الجنوبية وتايوان.
وثانى هذه التحديات يأتى من النتائج المترتبة على الثورتين الصناعيتين الثالثة والرابعة، الأولى بالاستخدام الكثيف لتكنولوجيات المعلوماتية فى الاتصال والنقل والصناعة، والثانية بالتضافر بين الطفرات الكبرى فى الهندسة الحيوية والذكاء الصناعى وتخليق المواد، وكان من أثر ذلك تقليل الحاجة إلى اليد العاملة فى النشاط الصناعى بل وغيره من القطاعات، واتساع دور شبكات الإمداد على مستوى العالم والتى دخلت فيها على نحو ضخم الدول الصناعية الجديدة فى شرق آسيا، وكذلك التغير فى نمط التقسيم الدولى للعمل والذى انتقلت معه العديد من الأنشطة الصناعية كثيفة العمالة إلى بعض دول الجنوب خصوصا فى القارة الآسيوية وبعض دول أمريكا الوسطى.
ولاشك أن عملية العولمة كانت هى الإطار الذى سمح وسهل ظهور هذه النتائج. ويقتضى ذلك على دول الجنوب التكيف مع هذه التحولات، بالسعى مثلا للدخول فى شبكات الإمداد، والتفكير فى أنشطة صناعية أخرى لا تتنافس مع الأنشطة كثيفة العمالة التى انتقلت إلى دول آسيوية وفى أمريكا اللاتينية، وعدم التعويل على الصناعة وحدها لاستيعاب الأيدى العاملة الجديدة، والمضى فى تنويع الاقتصاد بتنمية الخدمات الإنتاجية مثل خدمات الاتصال والنهوض بالقوى العاملة القادرة على المشاركة فى الخدمات العالمية الجديدة مثل المحاسبة وحجوزات شركات الطيران، واستخدام الثورة العلمية والتكنولوجية فى النهوض بالزراعة واستخدام مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة، إلى جانب تقليل الاعتماد على مصادرها التقليدية.
كما يأتى مصدر آخر للتحديات القادمة من وراء الحدود فى شيوع فكر المدرسة النيوليبرالية والتى تدعو إلى التقليل من دور الدولة فى الاقتصاد والأخذ بمبادئ حرية التجارة وحركة رءوس الأموال، وهو ما يحد من قدرة الدولة على الاستقلال فى صنع سياساتها الاقتصادية وخصوصا عندما تشتد حاجتها للحصول على دعم المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولى والبنك الدولى، وعندما تدفعها التزاماتها فى ظل منظمة التجارة العالمية لخفض القيود على وارداتها من السلع الأجنبية. ومن ناحية أخرى فقد سهلت عملية العولمة ظهور قوى اقتصادية جديدة تتبنى نموذجا للتنمية يتناقض مع النموذج النيو ليبرالى، ويمكن لدول الجنوب أن تعتمد على هذه القوى فى دفع نموها على نحو يحررها من اتباع شروط المؤسسات المالية الدولية.
كما كان من آثار العولمة ظهور المجتمع المدنى العالمى بجميع منظماته وحركاته الاجتماعية، ونمو علاقات التضامن بين النقابات المهنية والعمالية وجمعيات حقوق الإنسان ومثيلاتها بالخارج ومع اتساع المطالبة بأوضاع أكثر ديمقراطية أصبحت الممارسات الداخلية للدول تجاه مواطنيها ومواطناتها مكشوفة أمام ذلك المجتمع المدنى العالمى، مما يجعلها عرضة لرقابة ذلك المجتمع عندما تنتهك حقوق مواطنيها ومواطناتها، أو تضرب عرض الحائط بحقوق التنظيم لهذه النقابات والجمعيات. وتملك منظمات المجتمع المدنى العالمى القدرة على التأثير على حكوماتها مما قد يدفعها للضغط، بحسب مصالحها بالتأكيد، على الدول التى تنتهك هذه الحقوق. ولم تكن الدول الصناعية الجديدة فى شرق آسيا تملك سجلا ناصعا فى احترام حقوق الإنسان، وتعرض بعضها لضغوط، وخصوصا كوريا الجنوبية، لفتح مجالها السياسى. ولذلك قد يبدو أن الجمع بين النظام السياسى السلطوى ودفع عملية التنمية أمر أشد صعوبة فى ظل هذه الظروف العالمية الجديدة.
وإذا كان من الممكن للدولة فى مجتمعات الجنوب أن تتكيف مع هذه التطورات العالمية، وأن تجد سبيلا للاحتفاظ بقدرتها على توجيه نشاطها الاقتصادى، إلا أن النجاح فى مواجهة التحديات الداخلية ليس مضمونا بالضرورة لأنه يتوقف على إرادة قيادتها السياسية، ومهاراتها فى الحكم وخبرتها بشئون الاقتصاد وطبيعة التحولات الجارية فى العالم، فعليها أولا وبمساعدة مجتمعها أن تبتكر نموذجها للتنمية، وإذا كان لها أن تستفيد من دروس الدول الصناعية الجديدة فى شرق آسيا، ومنها الصين، إلا أنها لا يمكن أن تكرر هذه التجربة بكل حذافيرها، فجوانب مهمة من هذه التجربة لصيقة الارتباط بثقافة هذه الدول وتاريخها وموقعها الجغرافى ومرحلة الانطلاق السريع فى تنمية اقتصاداتها، وليس ابتكار نموذج جديد للدولة الإنمائية فى ظل ظروف العولمة والثورتين الصناعيتين الثالثة والرابعة بالمستحيل. فقد كان ظهور هذا النموذج فى صيغته شرق الآسيوية فى رأى بعض الكتاب وليد التجربة والخطأ. وأحد جوانب التجديد فى هذا النموذج ثانيا هو ارتباطه بالتحالف الوثيق بين جهاز الدولة والشركات الكبرى فى القطاع الخاص، وهو الذى مكنه من النجاح فى قيادة القطاع الخاص نحو تنمية صناعية متقدمة، كما أنه هو الذى نقل هذه الشركات، وخصوصا الكورية والصينية والتايوانية لتكون من كبرى الشركات فى العالم فى مجال تخصصها، ولكن ذلك كان على حساب قبول مستويات عالية من الفساد واستبعاد الطبقة العاملة بل وانتهاك حقوقها الاقتصادية والاجتماعية. ولذلك فالتكيف الملائم فى هذه الظروف الجديدة ومع تصاعد الوعى بحقوق الإنسان ونمو المطالبة بالمشاركة السياسية هو أن يكون هناك تحالف سياسى يجمع بين جهاز الدولة وشركات القطاع الخاص والنقابات العمالية فى مشروع وطنى شامل.
التحدى الداخلى الثالث هو فى وجود جهاز بيروقراطى قادر على القيام بمهمة قيادة الاقتصاد برسم السياسات المناسبة والتواصل مع قيادات القطاع الخاص والنقابات العمالية لتسهيل تنفيذها والأخذ بالإجراءات التى تيسر ذلك. وهذا يقتضى أن تتوافر لهذا الجهاز القدرات العلمية والخبرات الملائمة ومهارات التنسيق بين أجهزة الدولة ذاتها وفيما بينها وقيادات القطاع الخاص والنقابات العمالية، والتفاوض مع الشركات والمؤسسات الدولية للوصول إلى الشروط والعلاقات التى تفتح المجال لاستمرار عملية التنمية. كما يجب أن يتسم هذا الجهاز بالنزاهة فلا يتحول موقعه المتميز فى قيادة عملية التنمية إلى مصدر للكسب الخاص على حساب غالبية المواطنين والمواطنات. وكل ذلك ليس بالسهل ولكنه ليس بالمستحيل، كما تشير لذلك تجربة سنغافورة التى تأتى على قمة قائمة الشفافية فى التقارير الدولية.
ولكن عقدة الوصول إلى هذه الصيغة الجديدة لنموذج الدولة الإنمائية فى القرن الحادى والعشرين هو أن تملك القيادة السياسية الفهم الصحيح لعملية التنمية بأنها تحول هيكلى فى الاقتصاد، وأنها تمكين للدولة وللمواطن وللمواطنة معا، وأن عائدها يظهر فى المدى الطويل، وأنها تستحق التضحيات المحسوبة والمتوازنة اجتماعيا لبلوغها، وأنها لا تكمن فى مشروعات تضفى عليها الجاه، ولكنها لا توسع من الطاقة الإنتاجية للمجتمع، أو تهدر موارده النادرة فيما لا يعود بالنفع على المواطنين والمواطنات. ما هى الحوافز التى تدفع قيادة الدولة لتبنى هذا الفهم الصحيح لعملية التنمية، والتى قد لا تظهر ثمراتها إلا فى أمد طويل؟
حل هذه العقدة ليس سهلا، ولكنه يتحقق فى ظل حكومة تؤمن بأنها لا تمتلك مفاتيح الحلول لكل مشاكل الوطن، بل تسعى للتشاور مع أفضل الخبرات المخلصة فى وطنها.
أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة