التنمية.. بين التبعية والنزعة الاستقلالية
محمد عبدالشفيع عيسى
آخر تحديث:
الإثنين 25 سبتمبر 2023 - 7:05 م
بتوقيت القاهرة
من بين أكثر القضايا المحيطة بالتنمية صعوبة، خاصة التنمية الاقتصادية، قضية العلاقة بين الداخل والخارج.
وفى بلادنا ــ الوطن العربى كله كمثال دال، بما فيه جمهورية مصر العربية ــ نجد هذه الصعوبة أكثر وضوحا، وأشد إلحاحا من حيث الحاجة إلى المواجهة الحاسمة. وهاك بعض التساؤلات المثارة، أو التى يمكن أن تثار بهذه المناسبة فى مقام البحث.
فهل يمكن السير على طريق التنمية فى البلد المعنى بمعزل عن غيره من البلدان؟ أم أنه لابد من تحقيق قدر مناسب من الارتباط أو الترابط بين البلد الساعى إلى التنمية، أو الآخذ فى النمو، وبين سواه؟ تلك مسألة تطرق إليها الكثير من البحاثة والمفكرين، ومنهم «سمير أمين» الذى جعل مناط السعى الجاد إلى التنمية الاقتصادية هو «فك الارتباط بين الداخل والخارج»، بين البلد النامى والعالم الخارجى. وقد اعتبر ذلك اللون من «فك الارتباط» Delinking المفتاح الحقيقى للتنمية، باعتبارها ــ بالضرورة ــ «التنمية المستقلة». وكان المقصود من ذلك عند «سمير أمين»، وعند أضرابه من قادة الفكر التنموى «العالم ــ ثالثى» عندنا، مثل اسماعيل صبرى عبدالله، ومن الخارج مثل «إيمانويل والرشتين»، أن تكون التنمية فى البلد المعنى معتمدة على ذاتها بصفة كلية أو شبه كلية selfــreliant.
كان ذلك ما قد ساد فى عقد الستينيات من القرن المنصرم بالذات، مع استهلال عقد التنمية بحق، من أواخر الخمسينيات إلى أوائل السبعينيات بالذات. وأنه مع بزوغ شمس التحرر الوطنى، وفى قلبه التحرر الاقتصادى من أسْر «الاستعمار الجديد»، فى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، أصبح «الاستقلال الاقتصادى» يعنى الاعتماد على الذات، وأصبحت التنمية قرينة الاستقلال Independence. ومن قلب «اللجنة الاقتصادية للأمم المتحدة لأمريكا اللاتينية» فى الستينيات برزت ثلة من (علماء التنمية) ــ إن صح التعبير ــ تدعو إلى «تنمية أخرى» ــ تنمية مستقلة ــ بدرجة أو أخرى، بدءا من التصنيع، على طريق «إحلال الواردات»، مع السعى إلى تصنيع بدائل المستوردات من السلع الاستهلاكية المعمرة بالذات، ومنها إلى السلع الإنتاجية، وسيطة ورأسمالية Capital goods.
وربما يلاحظ عدم تحقيق النمط الأمثل لإحلال الواردات، والوقوع فيما يسمى «مصيدة المرحلة الأولى لإحلال الواردات» فى ضوء اشتداد قيود النقد الأجنبى، انتقالا من تصنيع سلع الاستهلاك إلى تصنيع سلع الإنتاج (من المستلزمات الوسيطة ثم الآلات والمعدات) . ذلك ما حدث فى مصر فى الستينيات، وبدرجة أقل فى الهند مثلا، حيث ارتبط النمو بالتنمية، مع ارتباطهما بالتصنيع كعملية تحويل جذرى للهيكل الإنتاجى Industrialization. ومع التصنيع كقاطرة للتنمية أتى المحور الناقل للحركة ممثلا فى «التصنيع الثقيل». ذلك إذن ما حدث فى مصر الستينيات، حيث وجدت محاولة الإحلال محل الواردات، عبر إقامة سلسلة مترابطة فى حدود معينة، للصناعات المعتمدة على «المحور الثقيل»، خاصة فى مجال السلع المعمرة والوسيطة كالسيارات (شركة النصر للسيارات) ، ومعدات السكك الحديدية (سيماف) ، والحديد والصلب (حلوان) ، والكيماويات (أسوان) . • • •
هذا كان عصر الدعوة إلى التنمية المستقلة، مستظلة بترسانة نظرية كاملة، تحت مسمى «مدرسة التبعية»، فى الستينيات والسبعينيات، يقودها أعلام كبار مثل سمير أمين، وأندريه جوند فرانك، ودوس سانتوس، ولولا دا سيلفا، وآخرون. ومن حولهم كوكبة طليعية ــ أوروبية وفرنسية بالذات، على يد إيمانويل أريجى، وآخرين، وبتعبير آخر، برزت دعوة «التنمية الأخرى Another Development لتكون صنوا للتحرر الاقتصادى والاستقلال، ممثلا فى الاستقلال المالى (نسبيا) لمواجهة تبعة الاستدانة المفرطة، وكذا الاستقلال التجارى، بالتوسع فى تمكين شبكة التكتلات الاقتصادية الإقليمية، فى صيغ مختلفة عن تكتل «الجماعة الاقتصادية الأوروبية» لتتكامل الاقتصادات المتجاورة إقليميا، عبر شبكة من علاقات متبادلة لأنماط الإنتاج والتجارة.
تلك «مدرسة التبعية» التى ملأت الدنيا وشغلت الناس من أواخر الخمسينيات، إلى أواسط وأواخر السبعينيات، باعتبار السعى إلى الاستقلال والتحرر الاقتصادى الناجز، والتكتل الإقليمى، والاعتماد النسبى على الذات، هو أس الأساس لعملية التنمية، وقلبها التنمية الصناعية.
وقد ظلت عملية التحرر و«نزع الاستعمار» ومواجهة التبعية، التى بزغت مع نهاية الحرب العالمية الثانية، مستمرة حتى منتصف السبعينيات بالذات، ولكن سرعان ما واجهتها موجة حارة حادة يقودها فريق يسمى بـ«الليبراليين الجدد» NewــLibrals، ثم انتشرت عدوى «الليبرالية الجديدة» إلى عموم البلدان النامية المتحررة، وكان ربيب هذه العدوى والدعوة هو «صندوق النقد الدولى» الذى صعد أوائل الثمانينيات، مدعوما من الدول الصناعية الرأسمالية الكبرى، للترويج لنمط جديد مختلف، غير مستقل للنمو والتنمية، تحت مسمى «برامج التكيف الهيكلى» SAPS.
علما بأنه كان قد شهد عقد السبعينيات، فى أوله بالذات، انطلاقة متجددة للاعتماد على الذات، تحت مظلة «الدعوة إلى نظام اقتصادى عالمى جديد» من خلال «إشباع الحاجات الأساسية» بالذات، بعيدا عن نموذج التنمية التصنيعى الاستقلالى والمحل محل الواردات فى الخمسينيات والستينيات.
وقد سعى «الليبرايون الجدد» والتحالف الثلاثى فى الدول الكبرى من «الصندوق» و«البنك الدولى» و«الحكومات» إلى تحطيم النموذج الاستقلالى للتنمية، ومن ثم تكريس نموذج مستحدث، تابع ماليا وتجاريا وتكنولوجيا للمركز الغربى الرأسمالى بقيادة الولايات المتحدة، ومن ثم أوروبا الغربية وملحقها (وربما ذيلها القوى ــ اليابان) . انتعش نموذج «النمو التابع» ذاك فى الثمانينيات والتسعينيات وأوائل القرن الجديد، قائما على أنقاض الحرية والاستقلال والتكامل الإقليمى والاعتماد المتبادل Interdependence.
وكان حصاد «النمو التابع» هشيما تذروه الرياح، إذ توقفت دفعة التنمية الحقة، والتحول الهيكلى للاقتصاد، والتوزيع العادل للثروة والدخل، وحل محلها «استتباع» قهرى للمركز الغربى ــ الرأسمالى.
فما الحل..؟ لا حل جذريا، للأمام، من خلال تكريس التبعية، ولكن من خلال تجديد «النزعة الاستقلالية» Independence Tendency. لا ندعو بذلك إلى تطبيق نموذج صارم ــ غير قابل للتطبيق أصلا فى وقتنا الحالى ــ فلا ندعو إلى «تنمية مستقلة» بالمعنى الذى عرفه علماء ومفكرو مدرسة التبعية، ولكن ندعو إلى انتهاج سياسات اقتصادية واجتماعية نزاعة إلى قدر معقول من الاستقلالية، خاصة على أجنحة الطائر المنطلق نحو التحول الهيكلى والعدل والتكامل الاقتصادى الإقليمى كما أشرنا.
ندعو إذن إلى نموذج تنموى مجدد متجدد، يستفيد من دروس الإخفاق والعجز والقصور فى المراحل السابقة، ويسعى إلى التنمية الحقة وفق ما سبق.
فلنبشر إذن بنموذج إنمائى حقيقى، على ساقين من النزعة الاستقلالية ــ التكاملية إقليميا ــ والتحول الهيكلى لكل من بنية الإنتاج وتركيبة توزيع الدخل والثروة. وفيما يلى من مقالات نسْتكمل الحديث فى التنمية والفكر التنموى، رغم ما يشوبه من مشقة، وما يثيره من غصة فى الحلق لا تزول.