إسرائيل: تعدد الجبهات وتزامنها
وليد محمود عبد الناصر
آخر تحديث:
الأربعاء 25 سبتمبر 2024 - 7:50 م
بتوقيت القاهرة
ما قامت وتقوم به إسرائيل من هجمات متنوعة على عدة جبهات فى توقيت متقارب أو متزامن منذ نهايات شهر يوليو من هذا العام لم يكن المرة الأولى ولن يكون المرة الأخيرة.
فالحرب على عدة جبهات وفى توقيتات متزامنة أو متقاربة كانت وما زالت وستظل من ثوابت العقيدة الاستراتيجية والأمنية لإسرائيل منذ تأسيسها، بل حتى منذ قبيل تأسيسها.
فحتى قبيل الإعلان الرسمى عن قيام إسرائيل عام 1948، كانت الجماعات اليهودية المسلحة فى فلسطين التى كانت تحارب من أجل إنشاء دولة إسرائيل تتفاخر بأنها تقاتل على أكثر من جبهة فى ذات الوقت. وظهر ذلك التفاخر بوضوح فى مذكرات عدد من قادة بعض هذه الجماعات عندما كتبوها ونشروها فى مراحل تاريخية لاحقة. وقد استمر نفس النهج عقب إعلان تأسيس الدولة وخلال حرب فلسطين بمراحلها المختلفة، حيث كانت إسرائيل تحارب القوات العربية على عدة جبهات فى نفس الوقت وتفاخرت بعد وقف إطلاق النار بأنها نجحت فى تثبيت دعائم الدولة الوليدة وإلحاق الهزيمة بالجيوش العربية، على تعددها، فى توقيت واحد. وتم استخدام ذلك إعلاميا لتعبئة الدعم وحشد الانتماء، ليس فقط لدى اليهود فى فلسطين، بل وعبر العالم، للدولة الجديدة.
وإن كان هذا التعدد والتزامن فى الجبهات لم يكن هو الحال فى مشاركة إسرائيل فى العدوان الثلاثى على مصر فى أعقاب تأميم قناة السويس عام 1956، فإنه عاد ليطل برأسه من جديد من خلال قتال إسرائيل على أكثر من جبهة فى توقيت واحد فى حرب 1967 التى أدت إلى احتلال إسرائيل بقية الأرض التاريخية لفلسطين بالإضافة إلى الجولان السورى وشبه جزيرة سيناء المصرية، مما جعل من جديد القتال على عدة جبهات مصدر فخار لدى إسرائيل وإظهار أمام العالم لقوتها وقدرتها على إدارة وخوض القتال على أكثر من جبهة فى نفس التوقيت، بل وتحقيق الانتصار العسكرى. وتكررت الحرب على أكثر من جبهة مرة أخرى وليست أخيرة من خلال حرب أكتوبر 1973، وإن جاءت نتائجها ليست على هوى القيادة الإسرائيلية، التى، بالرغم من ذلك، استمرت تروج لفكرة تحقيق إسرائيل الانتصار فى هذه الحرب، سواء لدى الرأى العام داخل إسرائيل أو على الصعيد الدولى، خاصة فى الدول والمجتمعات الغربية آنذاك.
وجاءت الحالة الثانية، بعد حرب 1956، التى خاضت فيها إسرائيل حربا على جبهة واحدة فقط ممثلة فى غزو لبنان عام 1982، مما جعل هاتين الحالتين بمثابة الاستثناء الذى يؤكد القاعدة ولا ينفيها.
وعلى مدار الشهرين الماضيين، تعددت الضربات الإسرائيلية على أكثر من هدف فى عدة دول عربية بالإضافة إلى إيران. فإن كان الحدث الأهم تمثل فى استمرار الحرب الإسرائيلية فى غزة، وتخللها بالطبع اغتيال «إسماعيل هنية» فى العاصمة الإيرانية طهران، عندما كان ضيفا على الحكومة الإيرانية لحضور حفل تنصيب الرئيس الإيرانى الجديد «مسعود بزشكيان»، فقد حدثت هجمات عديدة ضد حزب الله فى لبنان، سواء على مبانٍ هامة له أو استهداف عدد من قادته واغتيالهم أو حتى مؤخرا تفجير هواتف محمولة لدى عدد من قادته وأنصاره وحلفائه، وفى نفس تلك الفترة الزمنية كانت هناك هجمات عديدة استهدفت مواقع داخل سوريا، ولم تتوقف الأمور عند هذا الحد، بل قامت إسرائيل خلال نفس الفترة باستهداف وقصف مواقع فى كل من العراق واليمن.
وكان كل ما تقدم دليلا جديدًا تقدمه الحكومة الإسرائيلية وتتفاخر به، ليس فقط أمام شعبها ولا فقط لإظهار قدراتها وإمكانياتها أمام العالم الخارجى، بل أيضا توجهها كرسالة مبطنة أو ضمنية للدول والقوى المعادية لها ولسياساتها على الصعيدين العربى والإسلامى، بل وخارج هذين الإطارين، بأنها قادرة، ليس فقط على رد الفعل، بل وعلى الفعل وأخذ زمام المبادرة فى البدء بتوجيه ضربات مؤثرة لأكثر من معسكر تراه معاديا لها ولمصالحها وفى أكثر من دولة فى توقيتات متزامنة أو متقاربة، حتى ولو كانت تراها أو تصفها أحيانا بأنها ضربات استباقية لإجهاض مسعى «الآخرين» لتوجيه أكثر من ضربة لها من مصادر متنوعة عبر تحالفات إقليمية تشمل أكثر من بلد وتنظيم عربى وإسلامى، وأحيانا أخرى تبررها بأنها رد على هجمات تعرضت لها بالفعل من تلك الأطراف.
ويبقى التساؤل الأول الذى يطرح نفسه بقوة فى سياق هذه المواجهات وهو إلى أى حد زمنى سوف تستمر إسرائيل فى تحمل وقوع خسائر فى صفوف مواطنيها، من العسكريين والمدنيين على حد سواء، بالإضافة إلى الخسائر المادية، على مدار مرحلة ممتدة زمنيا، نتيجة مواجهاتها العسكرية المتواصلة أو شبه المتواصلة مع أكثر من طرف هى فى حالة عداء ومواجهة معه، وعلى أكثر من جبهة فى توقيتات متزامنة أو على أقل تقدير متقاربة، وأخذا فى الاعتبار التنسيق القوى فيما بين تلك الأطراف.
ويرتبط بذلك التساؤل بدوره تساؤل آخر وهو مدى قدرة إسرائيل على ضمان محدودية تلك الخسائر التى تتعرض لها بشكل مستمر طوال الفترة الماضية ومدى قدرتها على استيعابها دون تأثير سلبى كبير يؤدى إلى زعزعة ثقة المواطن الإسرائيلى العادى فى قدرات وإمكانيات وفعالية ومصداقية الحكومة الإسرائيلية ومؤسساتها الأمنية والعسكرية فى توفير الأمان له، خاصة أن هاجس الشعور بالأمن هو الهاجس الدائم والأول للمواطن الإسرائيلى العادى منذ نشأة الدولة والذى يتصل فى وجدان كل إسرائيلى بتحدى وجود الدولة وبقائها فى حد ذاته.
وينتج عن التساؤلين السابقين تساؤل ثالث يتعلق بمدى قدرة الحكومة الإسرائيلية ومؤسساتها الأمنية والعسكرية على العمل من أجل أن تحول دون أن تتعدى تلك الخسائر التى تعانى منها الحد الذى يجعل من تلك المواجهات وما ينتج عنها من خسائر فى الأرواح وأضرار اقتصادية وعسكرية وفى البنية التحتية بمثابة حرب استنزاف طويلة المدى للجانب الإسرائيلى.
ويقودنا التساؤل الأخير إلى أن إسرائيل فى السابق قد تعرضت لحروب استنزاف من الجانب العربى، ولكن كان ذلك يحدث مع طرف عربى واحد، مثل حالة حرب الاستنزاف مع مصر عقب هزيمة يونيو 1967 وحتى تدخل الولايات المتحدة الأمريكية عبر مبادرة روجرز الشهيرة عام 1970 وقبول كل من مصر وإسرائيل بها، كما كانت الحالة الثانية هى حرب استنزاف على الجبهة اللبنانية عقب الغزو الإسرائيلى للبنان فى صيف عام 1982، وهى حرب انتهت بالمعنى المتعارف عليه للحروب فى عام 1985، إلا أنها لم تنتهِ بشكل تام ونهائى إلا بانسحاب إسرائيل وحلفائها من لبنان فى عام 2000.
إلا أن الاختلاف بين الحالات السابقة والحالة الراهنة هو تعدد جبهات المواجهات العسكرية ذات الطابع الاستنزافى، حتى ولو كان البعض يعتبر بعضها يدخل فى سياق ما يعرف بـ «حروب بالوكالة»، ومع الإقرار بأن الجانب الإسرائيلى يلحق أيضا خسائر بالأطراف العربية والإسلامية المواجهة له، سواء فى الأرواح أو على صعيد الأضرار الاقتصادية وتلك التى تتعلق بالبنية التحتية، ولكن يبقى الاختلاف فى عدة أمور من بينها من هو الطرف الذى لديه القدرة الأكبر على تحمل تلك الخسائر واستيعابها وإلى متى، وأيضا اختلاف الدافع بين إسرائيل من جهة والأطراف العربية والإسلامية المواجهة لها من جهة أخرى، وأى الدوافع أقوى وأمضى، بالإضافة إلى العمق الاستراتيجى لكل طرف وما يمكن أن يوفره من قدرة على مواصلة الصمود فى مثل تلك المواجهات المستمرة.