«فيتش» و«ريش» وفن التشويش
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 25 أكتوبر 2021 - 7:20 م
بتوقيت القاهرة
منذ أن انطلق مهرجان «الجونة» السياحى ذو الطابع السينمائى، ولم تتوقف طاحونة الجدل الشعبى والإعلامى عن الدوران خلف كل شاردة وواردة تطفو على سطح الحدث. وإذا كانت المهرجانات جميع تستهدف إثارة هذا النوع من الصخب الإعلامى لتثبيت ظهورها وتحقيق أغراضها التسويقية، فإن التركيز على أزياء الحضور وتصريحاتهم فى المؤتمرات الصحفية عادة ما يأتى على هامش الحدث الرئيس، الذى يريد صخبا من نوع آخر يتعلق بمادة المهرجان الأصلية، وفى حالة المهرجانات السينمائية فإن المادة الأصلية هى المحتوى السينمائى الفريد الذى يضيفه المهرجان إلى التراث الفنى للبشرية فى كل دورة من دوراته.
مدار هذا الصخب اشتعال الأقلام والمنصات الإعلامية بموضوعات النقد المتخصص والجماهيرى للأعمال المشاركة فى هذا المهرجان، ومحاولة التكهن بأحقها بالفوز بجوائز لجان التحكيم وتقدير الجمهور..
فى حالة مهرجان «الجونة» تطغى السجادة الحمراء على كل فعاليات الحدث الأخرى.. وتنشط الاشتباكات الحادة بين المتابعين هجوما ودفاعا عن جدليات عبثية أو مسلمات بديهية حول حرية الملبس والاختيار واحترام الذوق العام للمجتمع. ذلك تمكنت القرية المضيفة من تسويق اسمها السياحى والتجارى بشكل ذكى جعلها تتصدر منابر الإعلام بأقل مجهود، حتى حينما نجحت تنظيميا فى التعامل مع حدث مؤسف عشية انطلاق المهرجان، عندما نشب حريق فى أماكن استقبال الشخصيات المهمة بما له من آثار إيجابية مزدوجة. فمن ناحية كان التعامل السريع والكفء مع الحريق بمثابة شهادة إجادة لجهات التنظيم وخدمات التعامل مع الأزمات فى القرية السياحية الكبرى، ومن ناحية أخرى ربما ساهمت هذه الأزمة المؤسفة فى حل أزمة أخرى تتعلق بالحرج المعتاد فى المهرجانات والمؤتمرات فى مصر والخاص بتصنيف الحضور بين شخصيات مهمة وأخرى أقل أهمية! فبعد احتراق الموقع المخصص للشخصيات البارزة لن يجد أحد حرجا من الجلوس فى أى مكان.
•••
ثم بدأ المعترك السنوى على مواقع التواصل الاجتماعى يفحص كل فستان وبدلة، ويضع لمسات النقد الساخر على معظمها دون إخلال كبير بما جرت عليه عادة المهرجانات السينمائية فى أى مكان. غير أن حجم هذا المعترك يكون فى بلادنا أشد ضراوة وهيمنة على الحدث كله، كما إنه يأخذ أبعادا للمصادرة على الحريات التى يريد البعض أن يفرضها باسم العرف والتقاليد فى جبهة الرفض أو باسم الحق المطلق فى السفور ولو قضى ذلك باتهام المعارضين له بالتطرف والأصولية الفكرية المجرّمة.
غير أن أبرز المعارك التى شهدها المهرجان هذا العام كان أزمة مصطنعة اختلقها نفر من الفنانين حينما خرجوا بصورة مسرحية من قاعات العرض اعتراضا على عمل سينمائى مشارك فى المهرجان، متهمين إياه بالإساءة إلى سمعة مصر! ومطالبين جهات الرقابة بالتدخل لمنعه.
وبعيدا عن حجم المفارقات التى رصدها الكثيرون بين موقف الفنانين المنسحبين وبين أدوارهم التى قدموها للسينما خلال فترات متباينة، وبعيدا عن حالة الفصام التى تجعل أحد أبناء مهنة من مهن التعبير الحر عن الرأى ووجهات النظر يصادر على رأى زملائه، بل ويطالب بكبت هذا الرأى وقمعه بأى وسيلة! فإننى رأيت فى هذا اللون من الصخب وحب الظهور ضررا بالغا بالحدث وبعناصر الجذب الحضارى التى اجتهد المنظمون فى صناعتها وتصديرها للمتابعين. بل إننى أرى أن مخاطر تلك الواقعة تمتد لتترك أثرا سيئا على جذب المستثمرين والسائحين إلى دولة تكافح التعصّب الدينى بكل وسيلة، بينما يسعى بعض رموزها الفنية إلى خلق صورة أخرى من التعصّب الفكرى، ترفض أى رأى أو وجهة نظر وتسعى إلى كبتهما.
وإذا كانت مصر تكافح التعصب الوهابى باستخدام قواها الناعمة والخشنة وتلقى فى ذلك تأييد المجتمع الدولى بشكل متزايد، فإن غاية الدولة هو أن تعود حاضرتها هاضمة للثقافات حاضنة للاختلاف والتباين كما كانت فى أبهى عصورها التاريخية، قبل أن تغزوها ثقافات الانغلاق والطرد لأصحاب جنسيات وديانات بعينها.
لا أجد اختلافا بين متعصب لمفهوم وتفسير واحد للمعتقد الدينى، وبين متعصب لفكرة واحدة عن الوطنية. المُصادر لحق الناس فى فهم الدين والتعبير عن هذا الفهم، كالمُصادر لحق الناس فى حب الوطن والتعبير عن هذا الحب طالما أن حرية التعبير فى الحالتين كانت بطرق سلمية، ولم تعتد على حريات الآخرين.
لو أن انسحاب الممثلين من صالة العرض كان وسيلتهم (غير اللائقة فنيا) لنقد الفيلم واكتفوا بذلك، لما كان ثمة مشكلة، لكن بعضهم أفصح عن مبررات ذات دلالة خطيرة تطعن فى وطنية أصحاب العمل، وتفسح مجالا للكراهية بين فريقين أحدهما منحاز للمنسحب لأسباب مختلفة، والآخر منحاز للطرف الآخر ربما لنفس الأسباب. الفرق شاسع بين إثارة جدل صحى، ولو كان موضوعه سطحيا مثل الذوق فى ارتداء الملابس، وبين إثارة فتن خطيرة مدارها السفور والاحتشام بمنظور عقائدى أو الوطنية والإساءة للوطن بمنظور شوفينى أو مكارثى.. فى حالتى إثارة الفتن تكون العواقب وخيمة فى تعميق الهوة بين أبناء الوطن الواحد.. فلو أن صفوة المجتمع والذين يجب أن ينتسب إليهم فنانو الدولة، لم يتمكنوا من إدارة المشهد المضطرب حولهم بذكاء ودبلوماسية، بعيدا عن مساحات التكفير والتخوين، فمن ذا يتمكن من ذلك فى دولة ترتفع بها نسبة الأمية، وتسودها أفكار مشوشة فى كثير من مرجعياتها الفكرية؟!
•••
لا يمكن أن ننسى فتنة كروية قادها بعض الرموز الفنية والكروية كادت أن تتحول إلى صراع خطير بين مصر ودولة عربية أخرى نتيجة تصرف بعض هؤلاء الرموز برعونة، وتحويلهم الانتماء الرياضى الشريف إلى ساحة خصومة بين شعبين، وكراهية بين أمتين! هناك سقف للخلاف بين الفرقاء ينبغى ألا يطال منطقة المعتقد والوطنية بأى حال، خاصة أن مساحة الاختلاف فى هاتين المنطقتين لا تظهر فى المسائل العامة واليومية، ولا يصح أن يتم التراشق بها حتى وإن صحت، درءا للضرر الذى يقع إذا لم تصح.. هذه من جرائم الكراهية التى يجب أن يجرمها القانون الوضعى، وأى جرم أشد ضررا من بث الفرقة بين أبناء الوطن الواحد، على أسس من التصنيف والتباغض والمعايرة؟!
فى تقرير مؤسسة فيتش الأخير هناك العديد من الإيجابيات فى نظرة مؤسسة التصنيف للجدارة الائتمانية لمصر، وتحسّن مؤشراتها الاقتصادية المرتقب للعام ٢٠٢٢ رغم تراجعها الطفيف والمبرر عام ٢٠٢١... لكن أهم السلبيات التى رصدها التقرير والتى تحمل الكثير من فرص تحسين التصنيف الائتمانى السيادى لمصر كانت معاملات ESG والتى تعبر عن أركان أساسية للاستدامة متمثلة فى الأوضاع البيئية والمسئولية المجتمعية والحوكمة. وقد رأت المؤسسة أن إدارة بعض المخاطر السياسية المرتبطة بحرية التعبير السلمى عن الرأى بشكل أفضل، يمكن أن يعطى صورة غير مشوشة عن مستوى الرضا المجتمعى عن الإصلاحات الاقتصادية.. والحقيقة أن الدولة الرسمية كانت أكثر تقبلا للتعبير عن الرأى من بعض الفنانين وأوسع صدرا من كثير من الرموز الثقافية فى إدارة أزمة فيلم «ريش» الذى حاز على جوائز من مهرجانات دولية أبلغ تأثيرا من مهرجان «الجونة».
ليت شعرى كيف تلقت مؤسسة فيتش تلك الضجة الكبيرة حول عمل سينمائى يعرض رؤية فنية (ربما تكون متحيزة أو حتى مبالغة) عن واقع المعيشة فى مكان ما فى مصر؟! ليتنى أعلم كيف يقرأون تصريح لفنان مصرى يقدم ما يشبه البلاغ الرسمى فى زملائه لوقف العمل وربما لتوقيف صانعيه وعارضيه! ليتنى أعلم كيف يقرأون التراشق والاستقالات على هامش المهرجان على خلفية جدل مقصودة كبت حرية التعبير عن وجهة نظر مهما كانت متشائمة أو حتى ملفوظة من جانب البعض. هذا وحده من شأنه التأثير سلبا على مناخ الاستثمار فى مصر وعلى تطلعاتها لتحسين مكانتها وتصنيفها بين الأمم، ولا أقول على سمعة مصر، لأن الدول لا يساء إلى سمعتها إلا بمقدار ما ينال التشويش من موجة إرسال حضارية نريدها منطلقة حرة متسعة لاختلاف الحضارات والثقافات والآراء.