«أدب المقاومة» لغالي شكري
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
السبت 25 نوفمبر 2023 - 8:50 م
بتوقيت القاهرة
ــ 1 ــ
يكتسب هذا الكتاب القيم أهميته من وجهة نظرى (صدر للمرة الأولى سنة 1970 وإن كان قد انتهى من إعداد نسخته الأولى بين 1968 و1969 ودلالة هذه التواريخ لا تخفى على المتأمل البصير) من غزارة المادة التى اشتمل عليها أولا، فقد غطى الكتاب نماذج من الشعر والقصة والرواية والمسرحية، استقصى فيها كلها تيمة المقاومة مركزا على ما اتصل منها بصفة خاصة بالقضية الفلسطينية والنكبة تحديدا.
وثانى هذه الأسباب القدرة التحليلية الفائقة التى اشتهر بها الناقد الراحل غالى شكرى، وهو ابن بار من أبناء تيار النقد الاجتماعى فى الثقافة المصرية، وقد عمق معارفه وخبراته النظرية بتأطير أكاديمى رفيع المستوى حينما حصل على دكتوراه الدولة من السوربون فى علم اجتماع الثقافة بدراسته القيمة «النهضة والسقوط فى الفكر المصرى الحديث».
وثالث هذه الأسباب، أننى فى حدود ما قرأت، وما وقع تحت يدى من كتب ودراسات، لم أقرأ دراسة شاملة مستوعبة تستقصى «المقاومة» فى أدبنا العربى الحديث بأنواعه جميع (الشعر والرواية والقصة القصيرة والمسرحية) قبل دراسة غالى شكرى، ولا أشك أيضا أنها كانت بدرجة ما أو صورة من الصور ملهمة لنقاد آخرين فى إنجاز دراسات أو بحوث تدور حول الموضوع ذاته، ولعل من أشهر هذه الكتب كتاب الناقد الراحل سامى خشبة «شخصيات من أدب المقاومة»، وقد رأيته فى طبعة نادرة وحيدة صدرت عن مكتبة الأسرة المصرية عام 1996، ولم يطبع من حينها حتى وقتنا هذا فى أى طبعة أخرى! (وسنعود إليه لاحقا فى حديث مفصل) .
ــ 2 ــ
أما المرحومة رضوى عاشور وهى الأديبة والناقدة والأكاديمية الشجاعة، فقد كرست جزءا كبيرا من نشاطها على المستويين الكتابى والعملى لفكرة «المقاومة»، إن لم تكن حياتها كلها وكفاحها العلمى ونضالها السياسى وإبداعها الأدبى، وخطابها النقدى، يكاد يتمحور حول قيمة «المقاومة»، وتمثيلها أدبيا وإبداعيا ودراسيا، وبحث تجلياتها وأشكالها ودراسة صورها فى دراساتها الأدبية والنقدية (الرواية فى غرب أفريقيا ودراسة خطاب ما بعد الاستعمار)، ودراسة خطاب غسان كنفانى الروائى والقصصى، «صيادة الذاكرة دراسات فى النقد التطبيقى»، وغيرها من الكتب والدراسات.
وقد صدر عن دار الشروق فى ذكرى رحيلها الخامسة كتابها الرائع «لكل المقهورين أجنحة»، وهو الذى يضم مقالاتها وكتاباتها النقدية الممتعة التى لم تجمع من قبل، ولم يسبق لها الظهور بين دفتى كتاب واحد، موزعة على ستة أبواب ضمت ما يقرب من أربعين مقالا شاملا، تغطى قضايا فى اللغة والأدب والرواية والتاريخ، وبعض الموضوعات المتصلة بفلسطين نضاليا وإبداعيا، وعن الجامعة والثورة والمقاومة الفكرية والنشاط العام، وسيرة الرفاق (شخصيات ثقافية ونقدية رفيعة المقام) وسنعود إليه لاحقا لقراءة وتحليل الفصول التى أفردتها لبحث موضوع المقاومة والنضال الفلسطينى فى نماذج مختارة من الأدب العربى المعاصر.
ــ 3 ــ
مفهوم «أدب المقاومة» ــ فى أبسط تعريفاته ــ هو مصطلح وضعه الأديب الفلسطينى غسان كنفانى، ليصف الأدب الذى بدأ يكتب فى فلسطين المحتلة عام 1948، بعد النكبة عام 1948، ووفقا لكنفانى قاوم هذا الأدب القمع والاحتلال الإسرائيلى، ونادى بالوصول للحرية والاستقلال، رغم كتابته تحت ظروف الحكم العسكرى الذى فرضه الاحتلال الإسرائيلى على المناطق المحتلة منذ النكبة وحتى 1967 وما تلاها، وقد فصل غسان كنفانى رؤيته لهذا الأدب المقاوم فى دراسته الشهيرة بعنوان «أدب المقاومة فى فلسطين المحتلة (1948ــ1966)».
بالتأكيد لم يكن هذا المفهوم البسيط هو الذى انطلق منه غالى شكرى لإنجاز دراسته الضخمة (يقع الكتاب فى ما يزيد على 450 صفحة من القطع المتوسط، وقد صدر ضمن مكتبة الدراسات الأدبية العظيمة عن دار المعارف بالقاهرة). فأدب المقاومة لديه مفهوم إنسانى شامل يحدده وجهه الإنسانى العام، ولا يندرج فى تصويره للصراع البشرى تحت أى أطر قومية أو اجتماعية، ومن هنا سيتسع بحث غالى شكرى تاريخيا ليتجاوز نطاق الأدب المصرى والعربى المعاصر إلى نظائره فى التراث القديم والتراث الشعبى بل وحتى فى بعض الآداب العالمية الأخرى (الأمريكية على سبيل المثال). وفنيا لن يقتصر بحث غالى شكرى على الأنواع الأدبية الحديثة فقط (الرواية والقصة والمسرحية) وطبعا الشعر، بل سيشمل أيضا بحث البطولة فى التراث الشعبى، والبطل الشعبى فى المسرحية المعاصرة، وهكذا سيتسع البحث عن البطل المقاوم فى الرواية المصرية والفلسطينية والجزائرية، والبطولة فى القصة والمسرحية والشعر.. متخذا من عدد هائل من النتاج الروائى والقصصى والمسرحى الشعرى العربى مادة للتحليل والدرس.
ــ 4 ــ
فى معرض قراءته للكتاب يوضح الناقد الثقافى الراحل سامى خشبة الأبعاد المختلفة للمفهوم (أدب المقاومة) كما استخلصه من قراءته لدراسة غالى شكرى والمحددات التى نظر بها لهذا الأدب؛ الذى قد يكون أولا:
ذلك الأدب الذى يبرز علاقة الصراع بين الانسان والكون، باعتبار هذا الصراع جزءا لا يتجزأ من العلاقة الدينامية بين الطرفين، وسواء تجسد الكون الضخم فى صورة وحش بحرى أو غاز أجنبى، أو سلطة طاغية، أو قهر اجتماعى عات.
وقد يتسع هذا الأدب، ثانيا، لكى يعبر عن مضمون إنسانى عام (أى ليس محدودا بحدود قضية بذاتها أو موقف تاريخى أو سياسى أو اجتماعى بعينه) وذلك حين يتجاوز سمات مشكلة قومية بعينها، ويضعنا أمام مشكلة من مشكلات الضمير البشرى، وهذا البعد بالتحديد يستدعى تحليلا مفصلا فى ضوء ما شهدناه من تغييب البعد الأخلاقى تماما فى الأحداث الأخيرة فى غزة.
وأدب المقاومة أيضا فى وجه من وجوهه الأصيلة قد يعبر عن بعد قومى خاص حين تبرز سمات الروح الخاصة لشعب معين، وتصبح هى الرمز الذى يحاول العمل الأدبى أن يبرزه أو القضية التى يدافع عنها...