مصر وتهديدات الملاحة في البحر الأحمر
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 25 ديسمبر 2023 - 7:00 م
بتوقيت القاهرة
بمجرى ملاحى يمتد بطول 193 كيلومترا، تمخر عبابه أكثر من عشرين ألف سفينة سنويا، تحمل 30% من حاويات الشحن اليومية، لنقل 12% من التجارة الدولية، 10% من نفط العالم، و8% من غازه المسال، أضحت قناة السويس أهم شريان ملاحى عالمى.
ويواصل حوثيو اليمن استهداف سفن إسرائيل، والناقلات المتجهة إليها، حتى توقف عدوانها الغاشم على غزة، وترفع حصارها عنها. كما هدد زعيمهم، عبدالملك الحوثى، باستهداف البوارج الأمريكية، إذا تدخلت واشنطن فى شئون الجماعة أو استهدفت اليمن. وحذر دول العالم من المشاركة فى العملية متعددة الجنسيات، التى أطلقها الأمريكيون لحماية التجارة فى البحر الأحمر. ومنذ 19 أكتوبر الماضى، كثف الحوثيون هجماتهم على السفن التى تعبر باب المندب، وأطلقوا طائرات مسيرة وصواريخ باتجاه إسرائيل.
تشكل حصة البضائع القادمة من مضيق باب المندب باتجاه قناة السويس نحو 98% من إجمالى حجم التجارة، التى تحملها زهاء 35 ألف سفينة تبحر عبر البحرالأحمر سنويا، لنقل السلع بين أوروبا، الشرق الأوسط وآسيا، بما يمثل نحو 10 %من الناتج المحلى الإجمالى العالمى. لذلك، أضحى الاقتصاد المصرى، عرضة للتأثر بتداعيات الاضطرابات والتوترات فى جنوب البحر الأحمر. ففى مارس 2021، أفضى جنوح السفينة العملاقة «إيفر جيفن»، بقناة السويس، إلى تعطل حركة الملاحة فى اتجاهى المرور بها لمدة أسبوع، ما تسبب حينها، فى تكبيد التجارة العالمية نحو عشرة مليارات دولار يوميا. وحرمان الخزانة المصرية من 14 مليون دولار، قفزت إلى 28 مليون دولار فى اليوم الواحد. ومن شأن تراجع عوائد القناة أن يؤثر سلبا على الاقتصاد المصرى، الذى يعانى شحا بالعملات الصعبة، فيما تعد تلك العوائد أحد موارده الرئيسة من النقد الأجنبى، إذ تمده بتسعة مليارات دولار سنويا. بينما استثمر المصريون مليارات الدولارات لتطوير المجرى الملاحى وتحسين الخدمات.
مع تعاظم التداعيات السلبية لعمليات وتهديدات الحوثى على سلاسل توريد الشحن البحرى حول العالم، تم تصنيف البحر الأحمر وباب المندب مناطق عالية المخاطر. الأمر الذى اضطر الشركات العالمية الكبرى للشحن والحاويات إلى تبنى خيارات بديلة. فوفقا لمركز أبحاث المجلس الأطلسى، أعلنت سبع من أضخم عشر شركات، هى: «إم.إس.سى» السويسرية، «إيه.بى مولر»، «ميرسك» الدنماركية، «سى.إم.إيه سى.جى.إم» الفرنسية، «هاباج لويد»، «إيفر جرين» و«بريتيش بتروليوم»، تقليص حصتها فى سوق الشحن بالبحر الأحمر، وتحويل بعض سفنها إلى طريق رأس الرجاء الصالح. وبناء عليه، ارتفعت أقساط التأمين ضد مخاطر الحرب فى البحر الأحمر، بما يفاقم تكاليف الرحلة، عبر القناة، التى تستغرق سبعة أيام، بعشرات الآلاف من الدولارات. وضمن سياق ما يسمى «النقل المتعدد الوسائط»، تدرس الشركات الكبرى بدائل برية، بحرية، فضلا عن مسارات جوية، بغية الحفاظ على استدامة سلاسل التوريد العالمية. مع تجنب بؤر التوتر فى البحر الأحمر، وتلافى المخاطر، التكاليف الاقتصادية والأعباء البيئية للرحلات الطويلة، عبر رأس الرجاء الصالح.
برغم تلقيها تطمينات من جماعة الحوثى، تؤكد عدم رغبتها فى الإضرار بقناة السويس، وتيقنها من أن أمن الملاحة فى البحر الأحمر، محط اهتمام عالمى، كونه يمس السلم والأمن الدوليين؛ تتحسب القاهرة لأية مفاجآت جيوسياسية مزعجة، عبر تعزيز قدراتها الردعية. فخلال السنوات القليلة المنقضية، دشن المصريون عملية تطوير أسطولهم البحرى الحربى، وتعزيز قدراتهم البحرية فى شرق المتوسط، البحر الأحمر ومضيق باب المندب. حيث قاموا بشراء حاملتى طائرات هليكوبتر هجومية من طراز «ميسترال»، فضلا عن أربعة طرادات متعددة المهام، فرنسية الصنع، تم تجهيزها بصواريخ مضادة للطائرات والسفن. مع إبرام اتفاقية لنقل المعرفة الصناعية بقصد توطين وتطوير بناء السفن فى مصر، التى توسعت كذلك فى بناء القواعد العسكرية البحرية، كقاعدة «رأس جرقوب» فى البحر المتوسط، بالقرب من الحدود الليبية وقاعدة «برنيس» على البحر الأحمر بجنوب شرق البلاد.
انطلاقا من استراتيجيتها الرامية إلى عدم الانجرار إلى أية مواجهات بالبحر الأحمر، حافظت القاهرة على علاقات هادئة مع الحوثيين، متلاشية الاصطدام بهم. وعندما طالبت دول التحالف العربى فى اليمن بمشاركة عسكرية مصرية مباشرة فى عملية عاصفة الحزم، اكتفت البحرية المصرية بتنفيذ مهام نوعية، من خلال سفنها الموجودة فى جنوب البحر الأحمر.
بموازاة ذلك، أبقت القاهرة على تعاون عسكرى بحرى مع الولايات المتحدة وقوى غربية أخرى لتعزيز الأمن فى البحر الأحمر. ففى ديسمبر 2022، تولت البحرية المصرية قيادة قوة المهام المشتركة CTF153 المنوط بها مكافحة أعمال التهريب، والتصدى للأنشطة غير المشروعة بمضيق باب المندب وخليج عدن، وفى مقدمتها الإرهاب، وذلك فى سياق مواجهة التهديدات وتوفير العبور الآمن للسفن باب المندب والبحر الأحمر. ويتيح انضمام القاهرة للقوة 153 فى أبريل 2022 تموضعا عسكريا فى القوة البحرية الرابعة، التى أسستها الولايات المتحدة عام 2001 مع 34 دولة من حلفائها فى حلف شمال الأطلسى، وأصدقائها حول العالم. ومن ثم، دفعت مصر فى مايو 2015 بأربع سفن حربية إلى محيط مضيق باب المندب، وأعلن الرئيس، السيسى، لأول مرة، أن لبلاده «الحق فى التدخل عسكريا لمنع أى طرف من السيطرة على مضيق باب المندب أو إغلاقه، كون ذلك سيخلف آثارا سلبية على حركة الملاحة فى قناة السويس».
ردا على إطلاق واشنطن مبادرة تأسيس تحالف دولى جديد لتأمين الملاحة فى البحر الأحمر من الهجمات الحوثية، وتعزيز الأمن والازدهار الإقليميين؛ أكد وزير الخارجية المصرى، سامح شكرى، خلال مؤتمر صحفى مع نظيره البريطانى، ديفيد كاميرون، بالقاهرة، يوم الخميس الماضى؛ التزام الدول المطلة على البحر الأحمر بتحمل مسئولية حمايته. مشددا على أن مصر تواصل التعاون مع العديد من شركائها، لتوفير الظروف الكفيلة بضمان حرية الملاحة فى البحر الأحمر. لافتا النظر إلى أن مصر تتفق مع بريطانيا فى مبادئ خاصة متعلقة بهذا الأمر، وستواصل الاضطلاع بمسئوليتها فى إطار تأمين البحر الأحمر، وتيسير نفاذ السفن إلى قناة السويس.
بمجرد أن تضع حرب إسرائيل على غزة أوزارها، سيكون بمقدور قناة السويس التعافى بأسرع وقت، سواء لجهة كثافة مرور السفن، أو ما يتصل بحجم الإيرادات. وذلك فى ظل ارتفاع رسوم الشحن والمرور، علاوة على التنامى المتواصل فى حركة التجارة العالمية. فحتى نهاية نوفمبر الماضى، لم تتأثر حركة مرور السفن عبر القناة بتصاعد التوترات فى مضيق باب المندب، وإنما زادت أعدادها بنسبة 17.6%، لتبلغ 26 ألف سفينة، من الاتجاهين، مقابل 2171 سفينة خلال الشهر ذاته من العام الماضى. كما نمت عائدات القناة بنسبة 20.3%، وتعاظمت إيراداتها الكلية بنسبة 34.7% فى العام المالى المنتهى فى 30 يونيو 2023، إلى 9.4 مليار دولار، مقابل 7 مليارات دولار فى العام المالى السابق.
تتعاظم الأهمية الجيوسياسية لقناة السويس أكثر من أى وقت مضى. فأخيرا، تحولت مسارات خطوط نقل البضائع، بين الساحل الشرقى للولايات المتحدة وآسيا وبالعكس، صوب المرور عبر قناة السويس، بدلا من قناة بنما، التى تعانى جفافا شديدا بجريرة التغيرات المناخية، التى تمخضت عن تقليص عدد ممرات السفن فى مجراها. وبشغف بالغ، تترقب شركات الشحن العالمية العودة السريعة إلى قناة السويس، جراء تعاظم كلفة النقل الجوى للبضائع، والذى لا يشكل سوى 15% من إجمالى حركة الشحن الدولى. كذلك، من شأن تحويل السفن باتجاه طريق رأس الرجاء الصالح، إطالة أمد الرحلات، بواقع أسبوعين إضافيين، بما يرفع التكلفة، يزيد المخاطر الأمنية والبحرية، مثلما يفاقم التداعيات البيئية السلبية، جراء الزيادة الهائلة فى استهلاك السفن للوقود الأحفورى أثناء رحلاتها الطويلة.