فى الطريق إلى مارد جديد
علي محمد فخرو
آخر تحديث:
الخميس 26 فبراير 2015 - 9:40 ص
بتوقيت القاهرة
من يستطيع أن يضمن لأمة العرب أن قرار حكومة الولايات المتحدة الأمريكية بتدريب عشرين ألفا من شباب سوريا لن يخرج المارد مرة أخرى من القمقم؟ ذلك أن تجربتنا مع نظام الحكم الأمريكى، بشقّيه الديمقراطى والجمهورى، يجسٍّد ما قاله شاعرهم روبرت فروست: لا شىء فى الوراء ننظر إليه بكبرياء، ولا شىء فى الأمام ننظر إليه بأمل".
ففى الثمانين من القرن الماضى جنّدت وكالة الاستخبارات الأمريكية الشباب العرب ودرّبتهم بمال بعض حكومات وأغنياء العرب، ثمُ ألقت بهم فى جبال ووديان أفغانستان ليحاربوا عدوها الاتحاد السّوفييتى باسم الإسلام. حتى إذا ما سقط الاتحاد السُّوفييتى فى براثين تلك المؤامرة وتمزّق إربا خرج جنيُّ الجهاد العنفى من القمقم كما رد القاعدة. وكانت النتيجة دمار أفغانستان ودخول أمة العرب فى جحيم حقبة الجهاد التكفيرى العنفى القاعدى الذى يمتدُّ باضطراد إلى يومنا هذا ليأكل الأخضر واليابس، وهكذا خسر العرب والإسلام وربحت أمريكا وحليفتها الصهوينية.
***
وفى بداية التسعينيات من القرن الماضى حرّكت أمريكا ماكينتها الإعلامية العولمية لتمارس كذبة القرن الكبرى، من أجل أن تبٍرر لنفسها وللمخدوعين ممّن تبعوها، بأنها تحتلُّ العراق لحماية العالم من وهم أسلحة الدمار الشامل التى يمتلكها ولتدشّن من خلال ذلك الاحتلال حقبة دخول العراق وبقية العرب فى جنّة الديمقراطية. ولكن بدلا من حدوث ذلك ارتكبت ألف حماقة وحماقة، فدمُّرت جيش العراق الوطنى، وأقامت ديمقراطية طائفية متصارعة مجنونة، وسلخت شمال العراق تمهيدا لتفتيته.
حتى إذا ما أنهت دورها التآمرى فى العراق وتركته جيفة عفنة فى قبور برابرة التاريخ خرج من القمقم الذى زرعته المارد التكفيرى الداعشى، وها أن ذلك المارد قد احتل ثلث العراق وقتل من قتل بغير وجه حق، ونهب من نهب بلا ذرف دمعة واحدة، وسبى من سبى من حرائر العراق بلا حمرة خجل أو تقوى من ربّ العالمين. واليوم تعود أمريكا لاحتلال العراق باسم محاربة المارد الذى خلقته من بعد ما خلقت أباه، بينما هو يكبر ويقوى فى بقاع العالم كلٍّه.
وفى بداية تفجُر ثورات وحركات الربيع العربى أقنعت أمريكا العالم بضرورة السماح لحلف الناتو بالتدخل العسكرى المباشر لإنهاء عصر الديكتاتور القّذافى ونقل ليبيا إلى جنة الديمقراطية، من دون القيام بدرس الخصوصية القبلية الليبية وما يمكن أن ينتج عنها بعد انتهاء دمار الحرب وتمزيق مؤسسات الدولة الموجودة. وهكذا فما أن تمّت عملية " إنقاذ " ليبيا بقيادة أمريكية من وراء حجاب حتى خرج من القمقم أشكال من أبناء مارد القاعدة، بألبسة قبلية وصيحات جهادية تكفيرية مجنونة. ومرّة أخرى استبدال وضع سيئ بوضع أسوأ منه قد ينتج عنه انحلال الدولة الليبية لتصبح هى الأخرى جيفة نتنة، تماما كما حدث للعراق المنهك التائه فى ظلمات الطائفية.
ومن قبل ذلك، وفى قمة تلك القائمة من الكذب والإغواء وادّعاء الفضيلة، سحبت أمريكا القضية الفلسطينية من تحت جناح وسلطة هيئة الأمم واهتمامات دول العالم لتضعها فى يد لجنة رباعية هى من صنع يدها وتأتمر بأمرها. والنتيجة فى هذه المرة هى خروج المارد الاستيطانى الاستعمارى الصهيونى من القمقم، بمباركة ودعم أمريكى، وإمعانه قضما لمزيد من الأرض الفلسطينية وتدميرا لذاكرة العالم حول أصول الموضوع وبداياته من أجل قبول أساطير يهودية الدولة التى رسخها المارد الصهيونى المجنون فى عقل خالقه الأمريكى الذى هو الآخر مسكون بأوهام توراتية أصولية مختلقة.
***
بغضّ النظر عن المواقف تجاه الأنظمة العربية التى سقطت أو التى يجب أن تسقط، وعن مختلف التحالفات الأمنية والسياسية بين بعض الحكومات العربية وأمريكا لأسباب لا حصر لها ولا عد، بل وحتى بعيدا عن استحضار قيم الحق والعدالة والإنصاف التى داست عليها أمريكا باسم مصالحها القومية وتبنّيها الأعمى للمنطق الصهيونى وهلوساته، وبالرّغم من احترامنا الشديد لإنجازات الشعب الأمريكى الكثيرة فى شتى الحقول، فإن من حقّنا أن نطرح السؤال التالى: هل أن دولة ارتكبت أمثال تلك الأخطاء والخطايا، وغيرها كثير، يمكن أن تؤتمن على نواياها الأخيرة فى سوريا، وأنها لن تنتهى بإطلاق مارد عنفى قاعدى وداعشى جديد من القمقم السورى؟
من المهم طرح هذا السؤال على الأخص على الدول العربية التى ستموٍّل المشروع الأميركى أو ستحتضن مراكز التدريب على أرضها، خصوصا وأنها لن تكون لها كلمة واحدة فى مكونات ونتائج ومصير هذه المغامرة الأمريكية.
دعنا نذكّر أنفسنا بقول للفيلسوف الإسبانى ميجيل دو أنامونو "بأن الحياة هى الشك، وأن إيمانا بلا شك هو الموت بعينه". نحن ندرك مقدار الثقة الإيمانية فى أمريكا من قبل الكثير من الدوائر الرسمية العربية، لكننا نعتقد أنه قد آن الأوان لإدخال ذرة من الشك فى نيّات الولايات المتحدة الأمريكية التى ما أقحمت نفسها فى أية ساحة عربية، وعبر قرن كامل، إلا وأحالتها إلى أرض يباب وجعلت من ساكنيها إمّا لاجئين هائمين على وجوههم فى المخيمات والمنافى أو أمواتا فى القبور الجماعية.
إن الشاعر الألمانى جوته يقول "بأن الشك ينمو مع المعرفة "، أمازلنا نحن العرب، بعد كل تلك الويلات، لا نعرف أمريكا، مخرجة مردة الجن من قماقم التكفير؟