الضرورة الاستراتيجية لإعـــادة بناء الأسطول التجــارى المصــرى

أيمن النحراوى
أيمن النحراوى

آخر تحديث: السبت 26 فبراير 2022 - 9:25 م بتوقيت القاهرة

 

يُمثل الأسطول التجارى البحرى لأى دولة سفيرا عالميا متجولا، يُعبر عن قدرة الدولة على تشغيل السُفن باعتبارها وحدة اقتصادية وتكنولوجية حيوية فى مجال النقل والتجارة الدولية عبر بحار ومحيطات شاسعة تغطى ثلثى العالم، وتحمل فيها السفن أكثر من 80% من حجم حركة التجارة الدولية.
هنا فى مصر تتجلى حقيقة جغرافية أزلية قوامها أكثر من ألفى ميل من السواحل على امتداد البحرين المتوسط والأحمر، وممر ملاحى عالمى هو قناة السويس التى تمثل أهم حلقة فى السلسلة الفقرية البحرية العالمية لواحد من أهم الطرق الملاحية العالمية بين جنوب شرق آسيا والشرق الأقصى وأستراليا، إلى البحر المتوسط والبحر الأسود وأوروبا وأمريكا الشمالية.
ولا يقتصر الأمر على الجغرافيا الفريدة لمصر لتجعلها دولة بحرية أصيلة، فالتاريخ يسجل ذلك عبر كل العصور والأزمنة، إذ كانت مصر على الدوام ومنذ فجر التاريخ من أول الشعوب التى عرفت صناعة السفن وركوب البحر والخروج إلى أعالى البحار، وليس أدل على ذلك من الرحلة البحرية إلى بلاد بونت فى شرق أفريقيا التى أبحرت فيها السفن المصرية على امتداد البحر الأحمر لتقوم بالتجارة وترسى علاقات السلام والمنفعة المتبادلة مع شعوب تلك المناطق، قبل الميلاد بأربعة عشر قرنا من الزمان فى رحلات تاريخية لها العديد من المعانى والاعتبارات السياسية والاقتصادية.
والتاريخ البحرى المصرى الحافل يمتد عبر آلاف السنين، وصولا إلى النهضة المصرية الأولى فى عهد محمد على باشا الذى أولى اهتماما بالغا بالأسطول البحرى المصرى، لدرجة أن القوى الأوروبية عندما استشعرت خطورة المشروعات الطموح لمحمد على، تحالفت على تدمير الأسطول البحرى المصرى فى نوارين أمام سواحل اليونان 1827م، ولاحقا كان ضمن بنود معاهدة لندن 1840م تقليص حجم الأسطول المصرى وتقييد أعداد سفنه وحمولاته، وتحجيم أنشطة ترسانة الإسكندرية البحــرية إلى الحد الأدنى.
ومما لاشك فيه أن الأسطول التجارى البحرى فى عالم اليوم يمثل أداة اقتصادية هائلة ودعامة رئيسية من دعامات الاقتصاد الوطنى، فقط لتلك الدول التى لها القدرة على إدراك أهمية ذلك الأسطول التجارى البحرى، اعتبارا لذلك الارتباط الوثيق بين التنمية الاقتصادية للدولة وبين أسطولها التجارى البحـــرى.
كذلك فإن امتلاك أسطول تجارى بحرى وطنى حديث يعد أحد مظاهر السيادة الوطنية السياسية والاقتصادية، كما يعد دعامة استراتيجية فى أوقات الحروب والأزمات لتوفير احتياجات الدولة من المستلزمات والمواد الاستراتيجية ولنقل المعدات العسكرية والحيوية، ويضاف إلى العناصر السابقة دور الأسطول التجارى البحــرى الوطنى فى توفير فرص عمل للكوادر والعمالة البحرية على السفن أو بالموانئ البحرية فى أنشطة الشحن والتفريغ والتداول والتخزين والتموينات والتوريدات والتوكيلات وإصلاح وبناء السفن وغيرها من الصناعات والأنشطة المرتبطة بعمليات الأسطول.
فالأسطول التجارى البحرى الوطنى يعتبر بالنسبة لأى دولة بمثابة الركيزة الأساسية لتجارتها الخارجية، إذ لا يمكن افتراض وجود تجارة خارجية رائجة بدون أسطول تجارى بحرى متقدم يقوم بنقل التجارة الخارجية لهذه الدولة من وإلى شركائها التجاريين، وعليه تهتم دول العالم النامية والمتقدمة على السواء بأن يكون لها أسطول تجارى يضمن تلبية الحاجة المتزايدة لتنمية التجارة الخارجية ودفع صادراتها إلى الأسواق الإقليمية والعالمية، وضمان تدفق وارداتها فى التوقيتات وبالتكلفة المناسبة، فالنقل البحرى ما زال وسيظل أرخص وسائل النقل بالمقارنة بوسائل النقل الأخرى، إذ يحقق اقتصاديات الحجم الكبير والوفورات الخارجية الاقتصادية والفنية للتجارة الدولية.
• • •
كذلك يمكن الإشارة إلى أن لعملية النقل تأثيرها على جانب العرض؛ حيث تؤدى إلى فتح المجال العالمى لتسويق البضائع واتساع أسواقها، وبالنسبة للسوق نفسها تسهم عملية النقل فى تعدد وتنوع السلع المعروضة كمًا ونوعًا، مع الأخذ فى الاعتبار عامل أثر اقتصاديات الحجم فى النقل بكميات كبيرة وأسعار نوالين منخفضة مما يؤدى إلى حدوث انخفاض فى التكلفة الإجمالية للسلعة ومن ثم تخفيض ثمنها، ويضاف إلى ما سبق أن التطور الهائل فى تكنولوجيا النقل ووسائله قد ساهمت إلى حد كبير فى تقليل الاختلافات الناتجة عن الفوارق المناخية والموسمية وتقريب المسافات الجغرافية الشاسعة فى أرجاء العالم مما ساهم فى تسهيل وتدفق حركة التجارة الدولية وعولمة الإنتاج والأسواق اعتمادا على المزيد من التخصص وتقسيم العمل الدولى وترشيد استخدام عوامل الإنتاج بما يحقق كفاءة تخصيص واستغلال الموارد الاقتصادية.
كما تجدر الإشارة فى هذا الإطار إلى قطاع نقل الركاب بواسطة السفن البحرية، هذا القطاع الذى يمثل أهمية بالغة للاقتصاد المصرى، اعتبارا لاستخدامه من قبل مئات الآلاف من المسافرين المصريين ولاسيما عبر الموانئ المصرية المطلة على البحر الأحمر بحيث يغلب على هذا العدد الكبير من المسافرين العمالة المصرية العاملة فى المملكة العربية السعودية، والمعتمرين المصريين، والسائحين القادمين من المملكة العربية السعودية والخليج العربى، حيث يعتبر السفر البحرى وسيلة نقل اقتصادية، فضلا عما توفره هذه الوسيلة من إمكانية السفر بتكلفة مناسبة، وما يمكن معه السفر مع شحن حمولات كبيرة نسبيا من الأغراض والأمتعة والسيارات مقارنة بغيرها من وسائل النقل.
• • •
ويمثل قطاع النقل البحرى أهمية خاصة للاقتصاد الوطنى لأى دولة اعتبارا للمساهمات والآثار الاقتصادية لهذا القطاع بمحوريه الرئيسيين الموانئ البحرية والأسطول التجارى البحرى، فالخدمات التى يقدمها ذلك القطاع تعد متكاملة مع الأنشطة الاقتصادية الأخرى داخل الدولة سواء ما كان منها من الأنشطة الصناعية أو الزراعية أو التجارية أو السياحية، وكذلك الارتباط الوثيق بين النقل البحرى كوسيلة هامة من وسائل النقل وغيره من وسائل النقل الأخرى البرية والسكك الحديدية والنهرية وحتى النقل الجوى وذلك فى إطار منظومة النقل الدولى متعدد الوسائط.
إن الاستثمار فى قطاع النقل البحرى بوجه عام والأسطول التجارى البحرى الوطنى بوجه خاص يؤدى إلى تنشيط وتنمية القطاعات الاقتصادية المرتبطة بهذه الصناعة مثل صناعة بناء وإصلاح السفن، وصناعة الحديد والصلب، وصناعة الأجهزة والمعدات الميكانيكية والكهربائية، ونشاط التوريدات البحرية من الوقود والزيوت والتموينات والحبال والمياه والمعدات الغذائية، يضاف إلى هذه الصناعات مجالات وأنشطة خدمات النقل البحرى مثل المصارف التجارية والبحرية المتخصصة، وشركات التأمين، وهيئات التسجيل والتصنيف، ومعاهد التدريب البحرى، ومكاتب الاستشارات القانونية البحرية.
بيد أننا من جهة أخرى ينبغى أن ندرك أن طبيعة الاستثمار فى مجال الأساطيل البحرية صعبة وعسيرة، فالسفن تعتبر وحدات اقتصادية مكثفة لعنصر رأس المال، والسفينة قد تتراوح قيمتها بين عشرة ملايين ومائتى مليون دولار وفق نوعها وحمولتها وسعتها، كما أن تحقق عائد اقتصادى على مثل هذا الكم من رأس المال ليس مسألة سهلة أو هينة، فى ظل صعوبة توفير استثمارات كبرى لها، وكذلك فى ظل صعوبة التمويل وضماناته، وكذلك إصدار القوانين المنظمة والمحفزة والحامية لهذا النشاط الاقتصادى، وهكذا تتضح الصعوبة النسبية للاستثمارات فى مثل هذا القطاع دون مظلة سيادية من الحماية أو المساعدة باعتبار أن وجود الأسطول الوطنى الكفؤ هو ضرورة تفرضها اعتبارات استراتيجية وسياسية واقتصادية حاسمة.
ويمكن ملاحظة أن جميع الدول الكبرى دون استثناء، وكذلك الدول النامية والصاعدة إنما تحرص أشد الحرص على أن يكون لديها أسطول تجارى بحرى وطنى، فبريطانيا ربما تكون من أكثر بلدان العالم التى أسهم الأسطول البحرى التجارى والحربى لها فى ازدهارها ومجدها طوال ثلاثمائة عام تقريبا، وفى الوقت الراهن فإن جميع الدول الكبرى دون استثناء لديها أساطيل بحرية كبرى وشركات تدير تلك الأساطيل وتشغلها فى نقل تجارتها هى نفسها، والتربح من نقل تجارة غيرها من الدول بأسعار نقل باهظة تحقق لها إيرادات هائلة والعديد من المنافع والآثار الإيجابية.
• • •
إن النهضة الاقتصادية الشاملة التى تشهدها مصر فى الوقت الراهن، وبناء العاصمة الإدارية الجديدة وحركة الإعمار والتنمية الشاملة للبنية الأساسية والفوقية فى جميع أنحاء البلاد، ستتكامل معها دون شك عملية تنمية الأسطول التجارى البحرى المصرى، بحيث يتم العمل على اقتناء نوعيات وحمولات جديدة من السفن، وما يعزز هذا التوجه هو العدد الكبير من الكوادر البحرية والفنية والهندسية الذين تذخر بهم مصر، والكثير منهم لديه من الخبرات والكفاءة ما أهله للعمل فى مختلف الدول وعلى مختلف أنواع السفن مثل ناقلات النفط والغاز وسفن الصب والبضائع والحاويات والركاب وغيرها من الأنواع التى تضيف إلى الأسطول البحرى قيمة كبرى وبعدا جديدا فى خدمة الوطن.
وبالنسبة لمصر ليس امتلاك وتشغيل أسطول تجارى بحرى من قبيل الرفاهية، بقدر ما هو حتمية استراتيجية تفرضها عشرات الاعتبارات السياسية والاقتصادية والعسكرية، بما يجعل من ذلك هدفا وطنيا يتعين العمل عليه وتحقيقه.

خبير اقتصادى ومستشار النقــــل والتجارة الدولية واللوجيستيات

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved