الدكتور رشدي راشد ... وعبقرية التاريخ العلمي
محمد زهران
آخر تحديث:
الأحد 26 مارس 2017 - 10:40 م
بتوقيت القاهرة
كثيراً ما نسمع عبارات مثل "التاريخ مهم لفهم الحاضر واستشراف المستقبل" و "يجب أن نعرف تاريخنا فمن ليس له تاريخ ليس له مستقبل" و دائماً ما نتفاخر أننا أصحاب حضارة ... هذا كله جميل ولكن ما نتيجته؟ أخشى أنه قد تحول إلى مجرد مقولات معلبة تعودنا أن نقولها بدون أي مردود عملي ... على سبيل المثال نتفق جميعاً على أن العلم والثقافة هي من أهم إن لم تكن أهم دعائم تقدم الأمم ونتفق أن لنا تاريخ عريق ... فهل نجد في مصر أو أي بلد عربي مركز لتاريخ العلوم على غرار الأكاديمية الدولية لتاريخ العلوم في أوروبا (International Academy of the History of Science)؟ لا يوجد!! قد نجد بعض الباحثين يعملون منفردين في تاريخ العلوم وقد نجد بعض الجوائز تقدم هنا وهناك ولكن لا توجد مؤسسة أو مركز تأخذ على عاتقها العملية البحثية في تاريخ العلوم ... للأسف ... خاصة وأن تاريخ العلوم في الدول العربية والإسلامية في العصور الوسطى تاريخ ناصع البياض وكان أهم أسباب عصر النهضة الأوروبي ولكنه تاريخ مهضوم حقه ولا نستفيد منه لنحلل عوامل إزدهاره وإنهياره ونحاول تطبيق هذه الدروس في حاضرنا وكذلك لتعريف العالم بهذا التاريخ.
في المقال السابق تكلمنا عن أحد أهم الرواد في تاريخ وفلسلفة العلوم وخاصة تاريخ العصور الوسطى في الدول العربية والبلاد الإسلامية وهو الدكتور عبد الحميد صبرة رحمه الله واليوم نستكمل رحلتنا مع رواد هذا العلم عظيم الأهمية والمنسي في بلادنا وهو تاريخ العلوم وفلسفته.
اليوم نتكلم عن العالم العظيم الدكتور رشدي راشد رائد تاريخ علوم الرياضيات وفلسفتها في العصور الوسطى للبلاد العربية والإسلامية.
ولد الدكتور رشدي حفني راشد عام 1936 في القاهرة وبدأ دراسته في مدرسة الجمالية الإبتدائية، في حديث شيق له عن مسيرته يقول أن تعليم اللغة الأجنبية كان يبدأ من سن الثامنة! بعد المدرسة الإبتدائية إلتحق بمدرسة فاروق الأول الثانوية بالعباسية (في تلك الأيام كانت الإبتدائية تتبعها خمس سنوات من الثانوية ودون مرحلة إعدادية)، نجد هنا أن نشأة الدكتور رشدي رشاد فى حى الحسين والعباسية ساهمت في تكوين وعيه وتوجيهه لدراسة المرحلة الذهبية العلمية للعالم العربي والإسلامي.
حصل الدكتور راشد على ليسانس الفلسفة من جامعة القاهرة (في العشرين من العمر) وكان محباً للرياضيات ولكنه إتجه إلى الفلسفة (مع مواظبته على حضور محاضرات في الرياضيات أيضاً) للإجابة على تساؤلات ميتافيزيقية كانت تطرأ على ذهنه (حسب قوله) لذلك عندما سافر إلى فرنسا للدراسة وكان في ذلك متأثراً بالدكتور طه حسين وتوفيق الحكيم حصل من هناك على ليسانس الرياضيات ودكتوراه الدولة في تاريخ الرياضيات وتطبيقاتها.
قبل أن نكمل مع الدكتور رشاد رحلته في جامعة السربون بفرنسا يجب أن نذكر أنه وف أثناء دراسته الجامعية حسن وطور لغته العربية على يد محمود شاكر علامة اللغة العربية آنذاك وفي نفس الوقت كان يستعير كتب الفلسفة من محمود أمين العالم وكل من المحمودين فتحا لهذا الصبي مكتبتهما لينهل منهما ما يرد وهو كان صغير السن وقتها (16 عاماً) ... وأهمية هذه الملاحظة أنها ترينا كيف كان المناخ آنذاك يشجع على العلم ولا يتأثر بأية أيديولوجيات!
بعد إنتهاء الدكتور راشد من الدكتوراه عمل باحثاً في المركز القومي للبحث العلمي في باريس ثم تدرج في المناصب من مدير وحدة الإبستيمولوجيا (علم يدرس نظريات المعرفة) وتاريخ العلوم حتى أصبح أستاذاً في جامعة باريس ديدورو (Paris Diderot University) وتُعرف أيضاً باسم جامعة باريس 7 وأستاذاً بجامعة طوكيو في اليابان وأستاذاً زائراً بجامعات عديدة في مختلف أنحاء العالم (منها جامعة المنصورة عندنا في مصر) بالإضافة إلى إدارته لمركز تاريخ العرب العلمي في العصور الوسطى وفلسفتها حتى عام 2001 بباريس... والعديد من المناصب العلمية والشرفية التي يضيق المكان هنا عن ذكرها كلها بالإضافة إلى إدارة تحرير مجلات عديدة ومرموقة في تاريخ العلوم العربية مثل مجلة "العلم والفلسفة العربية: مجلة تاريخية" (Arabic Sciences and Philosophy: a historical journal) تصدر عن دار نشر جامعة كيمبريدج وسلسلة تاريخ علوم عند العرب والتي تصدر من بيروت كما أشرف على إصدار موسوعة تاريخ العلوم العربية التي صدرت في طبعتها الأولى في لندن ونيويورك عام 1996 ... وغيرهم الكثير.
بدأ الدكتور أبحاثه بالنظر في تطبيق نظرية الإحتمالات في العلوم الاجتماعية ثم حقق كتباً كثيرة لعلماء العرب الرياضيين وترجم الكثير من مخطوطاتهم إلى الفرنسية ولم يكتف بذلك بل كان يعكف على شرحها تاريخياً ثم رياضياً ثم فلسفياً فهو لم يكن يؤمن بوجود تاريخ للعلوم بدون فلسفة ولا فلسفة للعلوم بدون تاريخ وقدم معلومات تاريخية عن كثير من علماء العرب (مثل بن الهيثم والكندي والخوارزمي) لم تكن معروفة في الغرب من قبل.
مؤلفات الدكتور كثيرة جداً وقيمة جداً لا نستطيع أن نحصيها هنا ولكن دعنا نذكر بعض الأسماء لنعطي فكرة عن أهميتها: "أعمال الكندي العلميّة" و "تاريخ الرياضيات العربية" و "الجبر والهندسة في القرن الثاني عشر: مؤلفات شرف الدين الطوسي" و "تاريخ الرياضيات العربية: بين الجبر والحساب".
نتيجة لكل ما سبق حصل الدكتور رشدي راشد على جوائز وتكريمات كثيرة مثل:
ميدالية CNRS (Centre national de la recherche scientifique) من فرنسا عام 1977 و ميدالية فارس الشرف (Knight of the Honour Legion) أيضاً من فرنسا عام 1989 وميدالية الكسندر كواريه من المعهد الدولي لتاريخ العلوم عام 1990 وميدالية بن سينا الذهبية من اليونسكو عام 1999 وجائزة الكويت للتقدم العلمي سنة 1999 وجائزة الملك فيصل العالمية عام 2007 و الكثير من الجوائز فما ذكرناه جزء من كل...
قبل أن أنهي هذا المقال أود أن أعيد إقتراحي بإنشاء مركز في دولنا العربية للأبحاث المتعلقة بتاريخ العلوم وفلسفتها وقبل ذلك بجب أن يعرف شباب باحثينا: أهمية تاريخ العلوم وكيفية الاستفادة منه.