هيكل الذى نعرفه.. والذى لا نعرفه أيضًا!
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
الجمعة 26 مايو 2017 - 10:00 م
بتوقيت القاهرة
لعل أهم ما يقدمه كتاب عبدالله السناوى الجديد «أحاديث برقاش ـ هيكل بلا حواجز» أنه يمثل مدخلا معاصرا بل ممتازا للتعرف على عالم هيكل المترامى الأطراف، حياته وجوانب من السيرة والأدوار المتعددة التى أتيح له أن يلعبها على الساحة الصحفية والسياسية، فضلا على تقديم بانوراما مصغرة كاملة التفاصيل لنشاط الأستاذ وإسهاماته على مدى ستة عشر عاما متصلة (2000ــ2016).
«هيكل بلا حواجز» عندى أصدق وأوقع من «هيكل بلا حدود».. الحدود قد تكون قائمة فى نظام صارم فرضه الأستاذ على حياته والذى كان يتبعه بلا خلل لأكثر من ثلاثة أرباع القرن؛ فى مواعيد النوم والقراءة والكتابة وممارسة الرياضة.. إلخ هذه حدود طبيعية وسياسية لم يكن من السهل أبدا تجاوزها أو تخطيها، وإذا حدث ذلك مرة فلن تتكرر الثانية!
أما «هيكل بلا حواجز» فهى الأكثر دلالة على التمثل الكامل والحديث المباشر المتصل، وبما يعنى أن كل اللقاءات التى جمعت السناوى بالأستاذ هيكل لقاءات ذات طبيعة خاصة، حملت من الصدق والحميمية بقدر ما حملت من نقل الخبرات واستيداع الأمانات، والأهم هو مقدار «الثقة» التى يوليها رجل بحجم وقيمة هيكل لواحد من أخلص وأصدق التلاميذ المؤتمنين على نبل الرسالة وأمانة الكلمة والحفاظ على الإرث.
يقول السناوى: «لا أدعى حيادا لكن الموضوعية قضية أخرى. إذا استعرت تعبيرا له، فإن تجربتى معه «قطعة من حياتى»، غير أن المشاعر ملك أصحابها ولا تلزم أحدا آخر. الموضوعية حق القارئ وحق التاريخ. بقدر ما اطلعت وعاينت واؤتمنت، فإن الحقيقة وحدها تنصفه فى التاريخ عندما تتبدى كل المعلومات».
ترك الأستاذ هيكل ــ عليه رحمة الله ــ نحو 64 كتابا منها ما وصل عدد صفحات المجلد الواحد منها قرابة الألف صفحة! نشر أول كتبه عام 1951 «إيران فوق بركان»، وكان من آخرها ثلاثية «مبارك وزمانه وما بعده».. هذه المكتبة الضخمة التى ألفت صفحاتها وتحدثت وثائقها وأرخت حوادثها لنحو ثلاثة أرباع القرن، هى سيرة هيكل الحقيقية، سيرة هيكل التى عرفها من عرفها وغابت عن آخرين، ولكن هناك دائما ضرورة لأن يعرفها شباب كثر، فنهر الحياة متدفق وأمواج الأجيال لا تتوقف.
وهناك من عمره الآن خمسة عشر عاما قد يكون قرأ شيئا لهيكل أو سمع عنه وذهل عن الإحاطة به لضخامة الإنجاز واتساع الرقعة، لكنه فى كل حال سيكون فى حاجة لمن يفتح له الباب ويقوده بهدوء وتأن ويرسم له لوحة أنيقة واضحة المعالم بارزة القسمات، يعرف منها هيكل الصحفى وهيكل السياسى، وهيكل المفكر القومى، وهيكل الذى يمكن أن نختلف معه ومع آرائه وبعض تحليلاته، ولكنك لن نختلف على قيمته ولا قيمة ما أنجزه.
هنا بالتحديد تكمن إحدى مهام الكتاب الأصيلة، وهدف من أهدافه الكبرى، تؤدى «أحاديث برقاش» هذه المهام بكفاءة واقتدار.
وإذا كان الكتاب قد عرض لهيكل فى مساراته الأشهر والأكبر، سياسة وصحافة وفكرا قوميا، وسجل منحنى العلاقة وبناء التصورات واختلاف المواقف مع كل رؤساء مصر الراحلين والسابقين والحاليين، فإن من أمتع فصول الكتاب وفقراته، تلك التى يتناول فيها السناوى شغف الأستاذ بالفنون والآداب والثقافة عموما.
يقول عنه: «فبعض كتاباته ـ بشهادة روائيين كبار أهمهم نجيب محفوظ ترتقى بصورها الدرامية والإنسانية إلى مصاف الأعمال الروائية الرفيعة، لكنه لم يكن يعتبر نفسه روائيا ولا كانت كتابة الرواية من أحلام الشباب التى راودته.
الشعر هو عشقه الأول. كان يحفظ نحو عشرة آلاف بيت من التراث العربى القديم والحديث خاصة لـ المتنبى وشوقى ويستعيدها بطلاقة فى أحاديثه العادية كأنه يتنفسها، فلكل موقف بيت شعر يستدعيه من الذاكرة يعلق عليه ويبدى رأيه فيه.. واستعادة محفوظاته الشعرية كانت من وسائله لتدريب الذاكرة أن تأبى نسيان ما جرى. فى لحظاته الأخيرة، وهو ينازع الروح، أخذ يردد أمام أبنائه بعض أبيات شعر تؤكد أنه لا فائدة من معاندة الطبيعة والقدر. من عباراته: «أنا شاعر مقموع»».
فى «أحاديث برقاش» نماذج وإشارات عديدة لهذا الجانب الجميل فى حياة الأستاذ؛ شغفه بالفن التشكيلى وحرصه على تنمية ذائقته البصرية والجمالية، بل يقدم الأستاذ عبدالله السناوى تفسيرا معقولا جدا لشيوع «المشهدية» و«بناء الصورة» فى كتابة الأستاذ هيكل أو أسلوبه العام؛ يقول: ««هيكل» أخذ المنحى نفسه، يرتاد المعارض، ويقتنى اللوحات، ويرتبط بصداقات مع فنانين تشكيليين، معتقدا أن ذلك من ضرورات متعة البصر، أو ثقافة العين. بناء الصور فى مقالاته وكتبه يعود إلى ذلك النوع من الثقافة».
هذا الكتاب تحية وتكريم للأستاذ هيكل، وتحية واحتفاء بالقيمة فى نموذج من أروع نماذجها، وتحية وتقدير للشباب والأجيال الجديدة، «المستقبل» الذى عناه هيكل فى كل ما كتب.