حجة الوداع
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 26 يونيو 2023 - 7:40 م
بتوقيت القاهرة
ما إن أعلن النبى صلى الله عليه وسلم فى العام التاسع للهجرة، عن نيّته التوجه لأداء فريضة الحج، فى العام التالى مباشرة، حتى هرعت زرافات المسلمين تتوافد على المدينة المنورة، من كل حدب وصوب، بُغية نيل شرف صحبة ومرافقة، خير الورى، أداء هذه الشعيرة العظيمة. وفى هذا، تعددت روايات العلماء والمحققين بشأن عدد الصحابة المشاركين فى حجة الوداع مع رسولهم المجتبى. فثمة من أورد أن عددهم بلغ مائة ألف صحابى وصحابية؛ وقيل مائة وأربعة عشر ألفا، ورُوى أنهم ناهزوا مائة وخمسة وعشرين ألفا، وقيل غير ذلك. وجاء فى حديث جابر بن عبدالله، رضى الله عنه، أنه قال: «صلَى رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فى المَسْجِدِ، ثُمَّ رَكِبَ القَصْوَاءَ، حتَّى إذَا اسْتَوَتْ به نَاقَتُهُ علَى البَيْدَاءِ؛ نَظَرْتُ إلى مَدِّ بَصَرِي بيْنَ يَدَيْهِ، مِن رَاكِبٍ وَمَاشٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلَ ذلكَ، وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلَ ذلكَ، وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلَ ذلكَ».
لم يحج، سيد الأنام، عليه الصلاة والسلام، سوى حجة وحيدة، جاءت فى العام العاشر للهجرة؛ وحملت تسميات متعددة، منها: حجة الوداع، لأنها كانت آخر اللقاءات التى جمعته، بجمهرة المسلمين، إذ وافته منيته صلى الله عليه وسلم بعدها بشهرين؛ وحجَة الإسلام، وحجّة البلاغ. حيث أعاد، خلالها، تذكير المسلمين بشرع ربهم، وتعاليم دينهم القويم. وبعدما ودّع الجموع الغفيرة، حمّل المسلمين، فى كل زمان ومكان، أمانة الدعوة والتبليغ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
يتفق المحقّقون من أهل الحديث، على أن المعصوم صلى الله عليه وسلم، قد خطب فى المسلمين، أثناء حجّته الأولى والأخيرة، ثلاث خطب. كانت أولاها، على صعيد عرفات، يوم التاسع من ذى الحجة. وثانيتها فى منى، يوم عيد النحر، الموافق العاشر من ذى الحجّة. أما الثالثة، فجاءت أواسط أيام التشريق، بمنى أيضا. وفى ثنايا تلك الخطب، أعلم الرسول حشود المسلمين بأحكام الحج ومناسكه، وبيَنها لهم بفعاله وممارساته. وأبلغهم، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، بما يحل لهم وما يحرم عليهم؛ إذ وضع لهم أسسا صلبة وقواعد راسخة يهتدون بها، ويتخذونها منهاجا لحياتهم. وأكد كذلك على عظم حُرمة دماء المسلمين، وأموالهم، وأعراضهم. ودعا إلى إبطال عادات الجاهلية كافة، وخاصة الثأر، والانتقام، والربا. وأوصى، النبى، خيرا بالنساء. وناشد الناس، الاعتصام بالقرآن والسنة، وقاية لهم من الزيغ والضلال.
ففى خطبة يوم عرفة، وهى الشهيرة بـ«خطبة الوداع»،اجتمع للنبى فى اليوم، الذى وافق يوم الجمعة، جموع غير مسبوقة؛ خطب فيها، صلوات الله وسلامه عليه، قائلا: «أيها الناس، إنَّ دماءَكم وأموالَكم حرامٌ عليكم، كحُرمةِ يومِكم هذا، فى شهرِكم هذا، فى بلدِكم هذا. ألا كلُّ شىءٍ مِن أمرِ الجاهليَّةِ تحتَ قدَميَّ موضوعٌ. ودماءُ الجاهليَّةِ موضوعةٌ؛ وإنَّ أوَّلَ دمٍ أضَعُ مِن دمائِنا دمُ، ابنِ ربيعةَ بنِ الحارثِ. واتَّقوا اللهَ فى النِّساءِ؛ فإنَّكم أخَذْتُموهنَّ بأمانِ اللهِ، واستحلَلْتُم فروجَهنَّ بكلمةِ اللهِ، ولكم عليهنَّ ألَّا يُوطِئْنَ فُرُشَكم أحدا تكرَهونَه؛ فإنْ فعَلْنَ ذلك فاضرِبوهنَّ ضربا غيرَ مُبرِّحٍ، ولهنَّ عليكم رزقُهنَّ وكسوتُهنَّ بالمعروفِ. وحث المسلمين الاعتصام بالقرآن، قائلا: «قد ترَكْتُ فيكم ما لَنْ تضِلُّوا بعدَه إنِ اعتصَمْتُم به: كتابَ اللهِ». وقد أشهد النبى قومه على أدائه رسالته، فقال صلى الله عليه وسلم: «أنتم تُسأَلونَ عنِّى، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهَدُ أنْ قد بلَّغْتَ فأدَّيْتَ، ونصَحْتَ. فقال بإصبَعِه السَّبَّابةِ يرفَعُها إلى السَّماءِ وينكُتُها إلى النَّاسِ: اللَّهمَّ اشهَدْ، ثلاثَ مرَّاتٍ».
عرض النبى صلى الله عليه وسلم فى تلك الخطبة، الأصول، التى يقوم عليها صلاح الناس فى أمور دنياهم وأخراهم. حيث ركّزت على معانٍ سامية وثوابت راسخةٍ، وأبرزتْ، بجلاء، حرمة دماء الناس وأموالهم. فضلا عن إلغاء وتحريم شعائر الجاهلية وشعاراتها، وإبطال الثارات، التى كانت تفت فى عضد القبائل إبان الجاهلية؛ فلا قصاص، ولا دية، ولا كفّارة فيها. ووجه الرسول صلى الله عليه وسلم بوضع الربا، وبدأ بربا عمه، العباس؛ ليقدم قدوة لغيره فى هذا المضمار. وشدد على حقوق النساء، عبر بيان ما لهن من حقوق وما عليهن من واجباتٍ، وكيفية التعامل مع الناشز منهنّ، كما حض على الإحسان إليهن وعشرتهن بالمعروف. وفى عصر يوم عرفة، نزلت على، سيد الخلق، الآية الثالثة من سورة المائدة، قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينا». وقد اعتبرها، ابن عباس، رضى الله عنه، تبيانا إلهيا تاما للفرائض، والسنن، والحدود، والجهاد، والشرائع، والمعاملات، والمعاشرات، والحلال، والحرام. إذ لم ينزل بعد هذه الآية، نص قرآنى فى حلال أو حرام، أو شىء من الفرائض أو الأحكام.
أما عن خطبة يوم النحر، فقد ورد بشأنها أحاديث شتى، أبرزها: رواية نفيع بن الحارث الثقفى، رضى الله عنه، أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم، جدد التأكيد على محارم الله بالقول: «إنَّ دماءكُم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ، كحرمةِ يومِكم هذا، فى بلدِكم هذا، فى شهرِكم هذا؛ وستلقونَ ربَّكم فيسألُكم عن أعمالِكم. ألاَ فلاَ ترجِعوا بعدى ضُلَّالا، يضرِبُ بعضُكم رقابَ بعضٍ. ألاَ ليبلِّغِ الشَّاهدُ الغائبَ، فلعلَّ بعضَ من يبلغُهُ أن يكونَ أوعى لهُ من بعضِ من سمِعَهُ». وفى رواية أخرى، يقول، عمرو بن الأحوص، رضى الله عنه، إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى خطبة يوم النحر بحجة الوداع، يشدد على حرمة الدماء، والأعراض، والأموال، كحرمة الزمان والمكان، ويخطب فى الناس، قائلا: «أَلا لا يَجنى جانٍ إلَّا على نفسِهِ. وألا لا يجنى جانٍ على ولدِهِ، ولا مولودٌ على والدِهِ. ألا وإنَّ الشَّيطانَ قد أيِسَ أن يُعبَدَ فى بلادِكم هذَه أبدا، ولَكن ستكونُ لهُ طاعةٌ فيما تحتقِرونَ من أعمالِكم فسيَرضى بِه». وفى حديث أبى أمامة الباهلى، رضى الله عنه، أنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فى حجّة الوداع؛ ويقول: «اتقوا اللهَ ربكُم، وصلّوا خمسكُم، وصُومُوا شهركُم، وأدّوا زكاةَ أموالكُم، وأطيعُوا ذا أمركُم، تدخُلوا جنةَ ربكُم».
كذلك، حذر، المصطفى عليه الصلاة والسلام، من الاختلاف، والشقاق، وشقّ صف الجماعة، كونها تمهد السبيل للتناحر والهلكة. وشدد صلى الله عليه وسلم على ارتهان كل إنسان بذنبه، وتحمل المرء، دون سواه، عواقب أفعاله فى الدنيا والآخرة. وهو نهج لم تألفه العرب فى الجاهلية؛ إذ كانوا يأخذون القبيلة بجريرة أحد أفرادها. وتضمنت الخطبة تحذيرا من الاستجابة لوساوس الشيطان، فيما يُحقّره بأعين الخلق من صغائر الذنوب وكبيرها. وأبرزت الخطبة أيضا أهمية الأخوّة فى الدين، والتوصية بتقوى الله تعالى، والحث على إقامة الصلوات الخمس فى أوقاتها، وصيام شهر رمضان، وأداء الزكاة لمستحقّيها، والأمر بطاعة ولاة الأمر. كذلك، حملت خطبة يوم النحر توجيها نبويا برفع راية الدين، ونشر رسالة الإسلام، وتبليغها لمن لم يحضر أو يسمع؛ فلعلّ غائبا يكون أفقه ممّن حضر. وحرص النبى صلى الله عليه وسلم على تذكير الناس بتبليغه رسالة ربه، وأشهدهم الله على إقرارهم له بالبلاغ.
وفى أواسط أيام التشريق، وتحديدا فى اليوم المسمى «يوم الرءوس»؛ حيث كان الحجّيج يأكلون فيه رءوس أضاحيهم، جاءت الخطبة الثالثة والأخيرة. فيومئذ، جدّد الرسول صلى الله عليه وسلم التأكيد على حُرمة الدماء، والأموال، والأعراض؛ فيما يشى بعظم وطأة ذلك الأمر. وذكّر الناس بمرجعهم إلى ربهم، وسؤاله إياهم عن أعمالهم. كما تكرّر الأمر بتبليغ توجيهات الرسول ووصاياه لمن لم يشهد ذلك الموقف من سائر الناس. وبين ثنايا النصح، والتوجيه، والتذكير بتعاليم الدين الحنيف، طوت خطبة أيام التشريق، إشارات، لا تخفى على ذى بصيرة، بشأن دنوّ أجل خاتم الأنبياء والمرسلين. فوفقا لغالبية الروايات، ودع صلى الله عليه وسلم، أتباعه ومحبيه، إبان حجة الوداع، ولم يدم مكثه الشريف فى الدنيا من بعدها، سوى ستين يوما.