دعاء عرفة
طلعت إسماعيل
آخر تحديث:
الإثنين 26 يونيو 2023 - 7:45 م
بتوقيت القاهرة
«لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك».. على وقع هذه التلبية، يقف حجاج بيت الله الحرام اليوم على جبل عرفات، استجابة لنداء جدهم إبراهيم عليه السلام فقد امتثل لأمر ربه «وأذن بالناس فى الحج» بعد أن رفع وابنه إسماعيل، عليهما السلام، القواعد من البيت العتيق، فجاءوا إليه من كل فج عميق، موحدين بالله الواحد القهار، تاركين خلف ظهورهم المال والولد، والأهل والخلان، مبتغين رحمة ومغفرة.
اليوم يلهج ما يربو على مليونى حاج، بالدعاء والتلبية «لبيك اللهم لبيك» ويكرر معهم مئات الملايين من المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها، إجابة لأمر الله، طالبين من المولى عز وجل قبول صالح أعمالهم، كما دعا من قبل جديهما «وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم».. (البقرة 127).
وعندما يتدبر الحجيج وهم على صعيد عرفة الطاهر المغزى الحقيقى للحج فى الطاعة، والانقياد لرب الأرباب فى كل قول وعمل، والدعوة للوحدة والتوحد، لابد وأن يقفوا عند الواقع المرير فى العديد من الأوطان التى جاءوا منها، وقد مزقتها الحروب، ونالت منها صراعات أتت على الأخضر واليابس، وتسببت فى تشريد ونزوح الملايين خارج بلدانهم، فى ظل خلاف وتناحر وتكالب على سلطة زائلة، وعرض دنيا فانية.
لابد لحجاج بيت الله الحرام، وهم فى لحظة تأمل لعيشهم ومعاشهم من فوق عرفة وجبل الرحمة، أن يشعروا بألم عظيم على ما أصبحت عليه بلدانهم، موطن الرسالات السماوية التى جاء بالمحبة، ونادت بالسلام، ولابد وأن يعتصرهم الحزن على ضياع الأمان وذهاب السكينة التى جاءوا إلى الأراضى المقدسة بحثا عنها لنفوس مجهدة، وأرواح متعبة، فرفعت الحناجر نداء التلبية، وصدحت بالدعاء، علها تكون ساعة إجابة للخروج من الحال التى وصلنا إليها.
يقف الحجيج على عرفة، آملين فى رضاء الله ورحمته، كى يعودوا كما اليوم الذى ولدتهم فيه أمهاتهم، مطهرين من الدنس، وقد غُفرت لهم الخطايا، ورفعت عنهم الذنوب، فهل يعملوا بعد رجوعهم إلى بلدانهم بما أراد العلى القدير أن يصل إليهم من معنى وراء ركن الحج الأعظم؟ هل سيعود من لبوا وكبروا وذبحوا الهدى وطافوا بالبيت وتجولوا فى شعاب مكة، وهم أكثر عزما وأصرارا على حل مشاكلهم ووأد الفتن فى بلادهم؟
الحج ليس فى الشعائر والعبادات التى تؤدى امتثالا لأوامر ربانية فقط، بل الحج فى المعنى والمغزى فى الإحرام، والطواف، والمبيت فى منى والصعود إلى عرفة، والنفرة إلى المزدلفة، ورجم أبليس بالجمار، ونحر الأضاحى، فجميها شعائر تستهدف بالأساس أن يعى الإنسان أنه لم يخلق عبثا، بل خلق للتعارف والتراحم «وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا»، فقد صنع الله البشر لعمارة الأرض لا دمارها وفسادها، ولا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوى، لا بالحسب والنسب والتفاخر بالمال والسلطة، فالجميع لآدم وآدم خلق من تراب.
لا يعرف الإسلام العنصرية، ولا يدعو للفرقة بين الناس، بل هو دعوة حق تحض على الوحدة والتقارب بين البشر، لا فرق بين أبيض وأسود، ولا ميزة لأحمر، فالجميع سواء أمام خالق الكون، فى أفضل تجليات مبادئ حقوق الإنسان، فإذا طبقت على الأرض لكانت طريقا لوقف العديد من المشاحنات والبغضاء فى عالمنا اليوم، وكانت سببا فى تجنب اندلاع الحروب وإراقة الدماء.
فى هذه الساعات المباركة، وفى هذا اليوم المشهود من أيام الله، يدعو الحجيج من على صعيد عرفات بالرحمة والمغفرة، وأن يرفع العزيز الجبار كل داء وبلاء وغلاء وظلم عنا، وأن يؤلف بين قلوبنا، ويجنبنا الشرور والفتن، ويرد عنا كيد الكائدين، وأن ينعم على أوطاننا بالأمن والأمان، ويمنحنا الصحة فى أبداننا، والعافية فى نفوسنا. اللهم استجب.. وكل عام وحضراتكم بألف خير.