بلاها سوسو
نيفين مسعد
آخر تحديث:
الخميس 26 يونيو 2025 - 8:35 م
بتوقيت القاهرة
من ألطف الحكايات والنوادر ما يتعلق منها بتقاليد الزواج وتجهيزاته التي تختلف اختلافًا كبيرًا من وقت لآخر، ومن شعب للثاني. ومازلت أذكر كيف هيمن موضوع كراسي الصالون الأوبيسون والسجاجيد الشينواه والتابلوهات الكانڤاه على أثاث كل بنات جيلي اللائي ينتمين إلى الطبقة الوسطى، وذلك إلى حد أنني كنت أبتسم أحيانًا وأنا أتنقّل بين بيوت صديقاتي فكل بيوتنا تشبه بعضها البعض، يختلف رسم الأوبيسون أو لون الشينواه أو غرزة الكانڤاه لكن الأصل والأساس واحد. هذا دون الحديث عن النيش وقصص النيش والنجف الكريستال الذي كان تنظيف حبّاته الصغيرة يحتاج إلى صبر أيوب. اختلف الوضع بعد ذلك جذريًا وأصبح المطبخ مفتوحًا على الصالة في البيوت الحديثة، وظهرَت غرفة للدريسنج، واختفى الصالون والنيش، وصار الجهاز من وجهة نظر الأبناء والأحفاد أبسط، أما من وجهة نظرنا نحن فإنه صار أغرب.
• • •
انطلق المرشد فتّاح الذي لازم جولة مجموعتنا السياحية في شوارع مدينة اسطنبول يشرح لنا المعالم التي نمّر بها بكل إخلاص، وفي الحقيقة فإن مهمته كانت صعبة. فلقد كان على الشاب الثلاثيني أن يجد شيئًا جديدًا يحدثنا عنه لأن كلنا زار العاصمة الاقتصادية لتركيا عدة مرات. مدّت لغته العربية ذات اللكنة الشامية جسرًا من الودّ بينه وبين مجموعتنا وعرفنا أنه تعلمها من بضع سنوات قضاها في سوريا، أما زوجته التونسية فيبدو أنها لم تؤثّر على لكنته كثيرًا، فعلى مدار نحو ثلاث ساعات لم نسمع منه ولا "برشا" واحدة. خرج فتّاح عن النص وقرر أن يحكي لنا عن بعض تقاليد الزواج الفريدة في تركيا، وكانت هذه لفتة ذكية منه لأنه نجح في الحفاظ على انتباهنا طوال الطريق. بدأ حكايته من طرابزون وهي مدينة سياحية يقال إنها رائعة الجمال تقع شمال شرق تركيا وتطّل على البحر الأسود، ولم يكن أيُ من مجموعتنا قد زارها. فقال فتّاح: بعد أن ينال العريس استحسان أسرة العروس التي تقدّم لها- ويرتضي الأهل وضعه الطبقي ومستواه التعليمي وأخلاقه، ويجتاز بنجاح كشف الهيئة، تتبقّى أمامه خطوة واحدة لكنها مصيرية حتى ترّن الزغاريد الحلوة في بيتهم. تضع الأسرة فوق سطح البيت (وبيوت طرابزون منخفضة الأسطح) عددًا من البرطمانات يساوي عدد بناتها في سن الزواج بحيث يحمل كل برطمان اسم واحدة منهن، فلو افترضنا أن لدى الأسرة ثلاث بنات مثلًا كما قال المرشد: فاطمة وزينب وعائشة تكون هناك ثلاثة برطمانات بأسمائهن. يُعطى العريس مسدس رشّ ليُصوّب به في اتجاه برطمان العروس التي طلب يدها، فإن أحسن التصويب يكون يادار مادخلِك شر، أما إن أخطأ الهدف وأصاب برطمانًا آخر فسيكون ذلك دليلًا على نقص ثباته الانفعالي، وهذا يعني أنه مؤهّل لمصاهرة الأسرة التي تقدّم لها لكنه غير مؤهّل للزواج من فتاة أحلامه بالتحديد.
• • •
لالالا ثانية واحدة يا فتّاح، هل تريد أن تخبرنا أن العريس لو كان يريد الزواج من فاطمة لكنه أصاب برطمان زينب تكون زينب هي نصيبه وقسمته؟ هزّ رأسه بالإيجاب. أعاد الكثيرون منّا عليه السؤال بأشكالٍ مختلفةٍ فكرّر نفس الإجابة بنفس المفردات تقريبًا. تعاطَفنا جميعًا مع العريس حين علمنا أنه لا توجد أمامه فرصة للتراجع لأن التقاليد هي التقاليد. فلو افترضنا أن العريس في أثناء التصويب شردَ فكره أو اهتزت يده أو أن المسكين أصابه وابل فهل يكون عليه إذن أن يدفع الثمن العمر كله؟! ومن واقع ذاكرتي الفنية العامرة لم أتصوّر أبدًا أن الجملة اللطيفة التي أحفظها عن ظهر قلب لفؤاد المهندس أو الدكتور رأفت من مسرحية "سُكّ على بناتك": بلاها سوسو خُد نادية، بلاها نادية خُد سوسو- يمكن لها أن تتحقق على أرض الواقع. كان أستاذ الجامعة الدكتور رأفت يوجّه المعيد لديه بقسم الحشرات أحمد راتب أو سامح عبد الشكور والذي يعّد تحت إشرافه رسالة ماچستير عن "ذبابة الفاكهة"- مرة للزواج من ابنته نادية إن دبرّت له ابنته سوسو مقلبًا، ومرة أخرى للزواج من سوسو إن أهانته نادية. ومع ذلك فإن العريس في طرابزون لا يملك حتى رفاهية الاختيار بين سوسو ونادية، ولا بين برطمانات عائشة وزينب وفاطمة. كما أنه أسوأ حظًا من العريس الذي يتقدم لأسرة لا تكون لها سوى ابنة واحدة، لأنه إن لم يصب برطمانها فلن يتزوجها، وخيرّ للعريس ألا يتزوّج البرطمان الذي يحبه على أن يتزوج برطمانًا لا يحبه.
• • •
احكي لنا أكثر يا فتّاح.. وفعلًا حكى فتّاح. قال المرشد اللطيف إذا كان التقليد الخاص بالبرطمانات موجود في مناطق تركية بعينها، فإن هناك تقليدًا آخر متّبعًا في عموم البلاد. بعد أن ينال العريس استحسان أسرة العروس التي تقدّم لها ويرتضي الأبوان وضعه الطبقي ومستواه التعليمي وأخلاقه، وينجح في كشف الهيئة.. إلخ تتبقى أمامه خطوة واحدة لكن مصيرية حتى ترّن الزغاريد الحلوة في بيتهم. وضعنا أيادينا على قلوبنا! قال فتَاح، يأتي العريس إلى بيت العروس وتضيّفه العروس بفنجان قهوة من البن التركي الشهير به كمية معتبرة من الملح، فإن احتمل ملوحة القهوة كان رجلًا شديد الجَلَد وينبئ بالقدرة على الصمود في الملمّات. أما إن لم يكمل فنجانه يكون الانطباع عنه أنه رجل لا يُعتمد عليه. سأل أحد أفراد مجموعتنا المرشد فتّاح قائلًا: ألا تلاحظ إن الاتجاه العام عندكم هو تعذيب الشباب المتقدم للزواج مع اختلاف بسيط في التفاصيل؟ هزّ فتّاح كتفيه وأجاب بخبث دمه خفيف: بلى وهذا هو السبب الذي جعلني أتزوج من تونسية. بالمناسبة فإن القهوة بالملح تشبه الشربات بالشطّة الذي قدمته سعاد حسني أو مديحة لعريس كانت تريد التخلص منه في فيلم "شباب مجنون جدًا"-فكم يمكن للواقع أن يلامس حدّ الخيال!
• • •
من بين كل المرات التي ترددتُ فيها على تركيا ظلت المرة التي استمعتُ فيها إلى فتّاح عالقةً بذهني أكثر من غيرها، فلقد كانت حكاياته كفيلة بتأكيد كم هي غنية ثقافات الشعوب وعاداتها وتقاليدها، ثم يأتي بعد ذلك مَن ينكرون الخصوصيات الثقافية ويكلمونك عن المواطن العالمي.