أمريكا تتخلى عن الحرب العالمية ضد الإرهاب
جميل مطر
آخر تحديث:
الأحد 26 يوليه 2009 - 10:21 م
بتوقيت القاهرة
أقف مذهولا أمام السرعة التى صعدت بها ثم سقطت مفاهيم أربعة ألهبت العالم فى صعودها وأسعدته فى سقوطها.
انقسمنا خلال عشرين عاما قسمة غير عادلة بين مهللين بالعولمة ونهاية التاريخ وصدام الحضارات ومكتئبين بسببها. ثم انقسمنا، أيضا قسمة غير عادلة، بين متضررين من بالحرب العالمية ضد الإرهاب ومنتفعين منها. وبقينا على هذه القسمة حتى ونحن شهود على سقوط أطروحة بعد أخرى.
سقطت أيديولوجيا وتاريخيا نهاية التاريخ وأعقبها سقوط أخلاقى مروع لصدام الحضارات. وفى عام واحد، هو العام الفائت، وقعت تحولات كبرى اهتزت لها ركائز أساسية فى العولمة ثم فى الحرب العالمية ضد الإرهاب منذرة بقرب سقوطهما بعد أن تكبدت الإنسانية بسببهما مآسى رهيبة. كلاهما، العولمة والحرب العالمية ضد الإرهاب، مدينان فى صعودهما وهبوطهما لتطورات أكثرها وقع فى الولايات المتحدة. ففى أمريكا كانت الأحلام بالإمبراطورية تزدهر بينما أحوالها فى الخارج والداخل تتدهور.
ولا أبالغ حين أقول إن وصول باراك أوباما إلى أعلى منصب فى الولايات المتحدة بإرادة شعبية لا شك فيها وبرضاء وربما تشجيع مؤسسات الطبقة الحاكمة الأمريكية كان كزلزال تدخلت فى صنعه قوى ونوايا شتى بهدف بناء أسس دولة أحدث فى أمريكا. كذلك لا أبالغ حين أقرر وبكل الثقة أن الحرب ضد الإرهاب، كانت أحد أهم العوامل التى مهدت لهذا الزلزال، فالولايات المتحدة فى ظل إدارة الرئيس جورج بوش وجماعة «المحافظون الجدد» لم تنتصر فى حربها العالمية ضد الإرهاب، واقترب يوم كان لابد لها أن تعلن فيه اعترافها بالهزيمة، أو أن تقرر بناء هياكل دولة حديثة.
الهزيمة أو الانكسار أو الانحسار الإمبراطورى، أيا كان وصف الحالة فى أمريكا فى آخر سنتين فى حكم بوش، لم يقع بسبب الإرهاب. فالإرهاب لم يضرب القلاع المالية وإنما ضربتها الحرب ضد الإرهاب بتكاليفها الباهظة وبتراكم الديون المترتبة عليها وباستغلال المضاربين بانشغال الدولة فى أمور خارجية.
ولم يكن الإرهاب السبب المباشر فى كراهية العالم لأمريكا وإنما كانت الحرب التى شنها الرئيس بوش تحت اسم حرب العالم ضد الإرهاب. ولم يكن الإرهاب السبب فى سقوط مبدأ اقتصاد السوق فى صورته المتطرفة وإنما سقط بسبب الحرب ضد الإرهاب ضمن سقوط مدوٍ لمدرسة فكرية وأيديولوجية، كان أحد أهم فصولها أطروحة صدام الحضارات باعتبارها الأب الروحى للحرب ضد الإسلام أو ضد الإرهاب.
أتصور أنه اجتمعت بعد هزيمة الجمهوريين فى الانتخابات النصفية فى نهاية 2006، مآزق متعددة أولها: ارتفاع مفاجئ فى درجة الكراهية لأمريكا فى الخارج وانعزال الولايات المتحدة دوليا وتمرد دول فى حلف الأطلسى رفضت المساهمة فى الحرب العالمية ضد الإرهاب. ثانيا اكتشاف أن ما بدأ فى التسعينيات اجتهادا ونظرية تحت عنوان صدام الحضارات تحول إلى حقيقة واقعة فى وقت كانت شعوب غير بيضاء تزحف لتلعب أدوارا مهمة فى السياسة الدولية والتجارة العالمية أو لتؤكد شخصيتها وثقافتها.
ثالث المآزق وقع حين ثبت أن مرافق الدولة الأساسية وبنيتها التحتية كالجسور والطرق ونظام الرعاية الصحية ومشاريع الرفاهية، جميعها متدهور. رابعها تضخم حجم الديون والعجز فى الميزانية.
هكذا بدت الحرب ضد الإرهاب قاسما مشتركا فى معظم المآزق التى اجتمعت لتؤكد حالة الانحسار فى مكانة أمريكا الدولية. وهكذا كان منطقيا ومعقولا ومبررا أن يدخل البيت الأبيض قائد يجدد الأمل فى وحدة الأجناس المكونة للأمة الأمريكية.. ويحجز لها مكانا فى عالم تتقدم للمشاركة فى قيادته وتوجيه مصائره شعوب ليست بيضاء وليست مسيحية يهودية.
يبقى تحفظ لا يستهان به. فالانتصار الذى حققته القوى والمصالح التى جاءت بأوباما إلى البيت الأبيض لا يعنى أن القوى الأخرى صاحبة المصلحة فى استمرار «الحرب ضد الإرهاب» ستعترف بهزيمتها، ودليلنا على عدم استعدادها الاعتراف بالهزيمة والحملة التى يقودها ديك تشينى وجماعة المحافظين الجدد وبعض قادة القوات المسلحة وقيادات فى أجهزة الاستخبارات والأمن الداخلى والمنظمات الصهيونية ضد ما يقوم به أوباما لتفكيك منظومة الحرب ضد الإرهاب. تكشف عن هذا التفكيك تكشف عنه التصريحات والمواقف الآتية من جانب مسئولين أمريكيين وبريطانيين.
نقلت فايننشيال تايمز فى عدد 30 يونيو 2009 عن جانيت نابوليتانو وزيرة الأمن الداخلى فى الولايات المتحدة قولها: إن الرئيس أوباما «تخلى عن مفهوم الحرب العالمية ضد الإرهاب لأنه لا يصف بدقة طبيعة التهديد الإرهابى لأمريكا»، وأضافت «إن كلمة الحرب تحمل فى طياتها معنى وجود علاقة بالدول المتنازعة فيما بينها.. بينما المؤكد هو أن الإرهاب ليس جزءا من العلاقات بين الدول»، وقالت: إن الرئيس أوباما «لا يستخدم تعبير الحرب ضد الإرهاب لأنه يثير مشكلات قانونية ويضر أمريكا سياسيا».
وكانت وزارة الأمن الداخلى وزعت مذكرة سرية على الأجهزة التابعة لها تحت عنوان «دليل مصطلحات لتعريف الإرهاب» مستفيدة من جلسات استماع حضرها زعماء من الجالية الإسلامية فى أمريكا. توجه المذكرة جميع موظفى الأمن الداخلى إلى عدم استخدام تعبير الحرب ضد الإرهاب وعدم تضخيم المضمون الدينى والتدقيق فى اختيار أسماء المنظمات الإرهابية. وفى تصريح لدافيد ميليباند وزير خارجية بريطانيا قال «يجب ألا نستخدم تعبير الحرب ضد الإرهاب لأن الحرب تعنى استخدام أساليب عسكرية ضد عدو واضح ومحدد وهو الشرط غير المتوفر فى الإرهاب». (نيوزويك 14 يوليو 2009). وتنقل المجلة عن أوباما تصريحا لمحطة CNN جاء فيه «المهم لنا أن نعترف بأن لدينا معركة أو حرب مع بعض المنظمات الإرهابية. اختيار الكلمات مهم فالكلمات تحمل دلالات».
معروف أن الحرب العالمية ضد الإرهاب أثمرت منافع لقوى ومصالح فى الولايات المتحدة وفى دول عديدة. ونعرف أيضا أنها تسببت فى انحسار مكانة الولايات المتحدة، وكانت سببا بين أسباب أخرى جاءت بأوباما وتياره الإصلاحى إلى الحكم. وأعتقد أنه يقع على عاتق صانعى السياسات العربية مساعدة أوباما فى تفكيك منظومة الحرب العالمية ضد الإرهاب ومؤسساتها وشبكاتها وتحالفاتها. أعتقد أيضا أنهم يخدمونه أكثر ويخدمون أنفسهم وشعوبهم لو ركزوا الجهود لتشخيص الأوضاع المحلية المسببة للإرهاب.
انفرطت الرباعية الأشهر فى التاريخ المعاصر. سقطت العولمة، أو فى طريقها إلى السقوط، وسقطت نهاية التاريخ ثم اختفت، وسقط صدام الحضارات، وها هى الحرب العالمية ضد الإرهاب، آخر المفاهيم الأربعة، تسقط على أيدى الدولة التى أطلقتها وتولت قيادتها.