دروس الملكة
محمد عبدالمنعم الشاذلي
آخر تحديث:
الإثنين 26 سبتمبر 2022 - 9:20 م
بتوقيت القاهرة
ماتت الملكة إليزابيث بعد عمر مديد ناهز 96 عاما جلست خلالها لمدة تجاوزت الـ 70 سنة على عرش بريطانيا، فكانت واحدة من أطول العهود الملكية فى التاريخ لم يتجاوزها غير لويس الرابع عشر ملك فرنسا الملقب بملك الشمس الذى جلس على عرشه لمدة 72 سنة فى القرن الـ 17 وبداية القرن الـ 18؛ حتى أن حكمها تجاوز حكم الفرعون الأسطورى العظيم رمسيس الثانى الذى لم يتجاوز حكمه 66 عاما!
ورغم ما مثله تاريخ بريطانيا من ميراث استعمارى مرير خاصة مع مصر التى رزحت تحت الاحتلال البريطانى لمدة تزيد على 72 سنة تخللتها حوادث مريرة منها حادث دنشواى وثورة 19 وانتفاضة الإسكندرية سنة 1922 وخديعتها الكبرى للعرب فى اتفاق سايكس بيكو ووعد بلفور ومذبحة البوليس فى الإسماعيلية والشهداء من الفدائيين فى القناة ثم غزوها الفاجر لمصر مع فرنسا وإسرائيل والكثير الكثير من المظالم الاستعمارية فى جميع أنحاء العالم وليس فى مصر وحدها.
• • •
لكن إذا تركنا الملكة الرمز للإمبراطورية وللطمع الاستعمارى ونظرنا إلى إليزابيث الإنسانة لا يسعنا إلا أن نشعر ببعض الإعجاب والتعاطف. فتاة يافعة جميلة حملها القدر وأجلسها على العرش وهى لم تتجاوز الخامسة والعشرين من عمرها لتكون سيدة إمبراطورية لم تغرب عنها الشمس يوما وتاريخ حافل بانتصارات على أعتى وأقوى الخصوم من تدمير الأسطول الإسبانى العظيم الأرمادا Armada إلى قهر رجل الأقدار نابليون بونابرت فى «واترلو» وحجمت أطماع قيصر روسيا فى تركيا فى حرب القرم وأخيرا انتصارها على ألمانيا القيصرية فى الحرب العالمية الأولى وألمانيا النازية فى الحرب العالمية الثانية. تاريخ من شأنه أن يلعب برأس شابة فى مقتبل العمر ويدفعها إلى الصلف والغرور ويخيل لها القدرة على التصلب فى مواجهة دورة التاريخ.
شهد بداية عصر إليزابيث أفول الشمس فى الإمبراطورية التى بدأت بضياع جوهرة التاج باستقلال الهند فى أواخر عهد أبيها جورج السادس. وحاولت بريطانيا باستماتة التمسك بتلابيب الإمبراطورية، فشنت حربا ضارية ضد حركات التحرر فى الملايو والماو الماو فى كينيا وفى عدن وفى مصر لمحاولة استعادة قناة السويس ولكن عقارب الساعة لا ترجع إلى الخلف، واختفت إمبراطورية ما وراء البحار وحتى فى بريطانيا ذاتها لاحت حركات استقلالية فى إسكتلندا وفى إيرلندا الشمالية التى كانت أوجها فى شكل حرب دموية سقط فيها مئات القتلى.
استطاعت إليزابيث أن تتكيف مع الزمن الذى حول إمبراطوريتها التى لا تغرب عنها الشمس إلى مجرد دولة من الدرجة الثانية عسكريا وسياسيا واقتصاديا، فأزاح الدولار واليورو الإسترلينى عن عرشه وفقد بنك بريطانيا مكانة الصدارة بين بنوك العالم. ظلت بريطانيا تحاول أن تتمسك بوهم الإمبراطورية تحت مظلة الكومنولث الذى هجره أهم أعضائه ولعل من أهم مظاهر التمسك بذكرى الإمبراطورية والأمجاد العسكرية وانتصارات الماضى بإبراز الزهو العسكرى والحفاظ على المسميات القديمة للوحدات العسكرية مثل الـ Grenadiers والـStream Guards Cold وأزياؤهم التقليدية من السترات الحمراء وقبعات فراء الدب والخوذ اللامعة المزدانة بالريش وشعور الخيل وأعلام الوحدات المزدانة بأسماء المعارك التى خاضتها والبلاد التى حاربت فيها.
يضاف إلى ذلك التغيرات الاجتماعية والأخلاقية التى شهدتها بريطانيا خلال السبعين سنة التى جلست فيها إليزابيث على العرش ولعل أبرزها الموقف من الطلاق الذى دعا عمها إدوارد الثامن إلى التنازل عن العرش عندما أصر على حبه لامرأة مطلقة وتتكرر القصة مع الأميرة مارجريت شقيقة الملكة التى فرقوا بينها وبين الرجل الذى أحبته قائد الجناح بيتر تاونسند رغم أنه أحد أبطال معركة بريطانيا الجوية لأنه مطلق، ومن المفارقات أن تمر الأيام ويتطلق ثلاثة من أبنائها ويتزوجوا للمرة الثانية ومنهم ولى عهدها أمير ويلز الذى صار اليوم الملك شارل الثالث. كيف استطاعت إليزابيث الإنسانة أن تتكيف مع كل هذه التطورات والتغيرات وتحافظ على مكانتها وهيبتها؟
• • •
لا بد أن الأمر احتاج إلى إرادة حديدية وشخصية فى غاية القوة وفى نفس الوقت فى غاية المرونة، إلا أن الأمر أيضا احتاج إلى طاقم من خبراء المراسم والبروتوكول المحترف الذى يقدر أهمية المراسم فى بناء الهيبة والجلالة ولا يختزلونه إلى الأسلوب الصحيح لاستخراج البذور من حبات العنب بالشوكة والسكينة. حدد الخبراء كل حركة من حركات الملكة ومن ملبسها وكلامها ولم يتركوا شيئا للعفوية أو رد الفعل التلقائى، وحدد خبراء البروتوكول أيضا مراسم اللقاء بالملكة من ملبس ومسلك بشكل يحفظ لها الهيبة والوقار ولعل من أهم ما التزمت به من توصيات كان التزامها بأن تنأى بنفسها عن السياسة ولم يؤِد ذلك إلى تهميشها أو إقصائها بل على العكس دعم هيبتها ومكانتها ووضعها فى مرتبة أعلى من الخلافات السياسية.
وجنبا إلى جنب مع المنظومة المراسمية هناك، منظومة إدارية تخطط وتنظم ولا تترك أمرا للمفاجأة أو المصادفة. ولعل تنظيم جنازتها التى خطط لها منذ منتصف ستينيات القرن الماضى بكل تفاصيلها الدقيقة حتى خرجت بهذا الرونق والعظمة رغم أنها ماتت فجأة بعد يومين من لقاء رئيسة الوزراء الجديدة.
فى خلال سبعين سنة قضتها إليزابيث على العرش سقط ملك اليونان، واضطر ملك إسبانيا إلى التنازل عن عرشه لولى عهده عقب فضيحة مالية، وتنازلت بباتريكس ملكة هولندا عن العرش بعد أن بلغت من العمر 75 عاما وشعرت أنها غير قادرة على الاستمرار فى الحكم، وانزوى ملوك أوروبا الآخرون، لا يلتفت الإعلام إليهم ولا يمثلون شيئا للرأى العام فى حين يظل العرش البريطانى ورقة من أهم أوراق القوة الناعمة للبلاد.
قد يكون هناك خلاف على النظام الملكى وادعاءات بأنه يكلف البلاد إلا أن الدخل والجاذبية السياحية للعرش البريطانى يغطى ويفيض عن أى نفقات يكلفها للبلاد.
دروس كثيرة نتعلمها من الملكة لعل أولها أهمية المستشارين المخلصين وأهمية الحفاظ على التقاليد التى تترسخ مع الزمن وأهمية التخطيط الدقيق وعدم ترك الأمور للمصادفة أو رد الفعل العشوائى وأهمية التكيف مع الزمن والتغييرات الاجتماعية وأهمية استقراء المشاعر والميول الشعبية والتروى لها وهو ما جعل الملكة تقيم جنازة ملكية وتحنى رأسها عند مرور نعش طليقة ابنها التى ماتت بصحبة رفيقها عندما أشار عليها الخبراء أنها تتمتع بشعبية طاغية لدى الشعب.
هل يقدر الملك الجديد أن يسير فى نهج أمه ويضمن الاستقرار لعرشه ولبلده؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة.