الخليج ــ الإمارات: العروبة المؤنسنة
صحافة عربية
آخر تحديث:
الجمعة 26 نوفمبر 2021 - 10:30 م
بتوقيت القاهرة
نشرت صحيفة الخليج الإماراتية مقالا للكاتب عبدالحسين شعبان، تحدث فيه عن الاتجاهات الأساسية التى تقوم عليها فكرة العروبة، والتحديات التى تواجهها فى الداخل والخارج، كما تناول أساس المشروع النهضوى العربى.. جاء فيه ما يلى.
كان اختيار منتدى أصيلة وجامعة المعتمد بن عبّاد المفتوحة فى المغرب لموضوع «العروبة والبناء الإقليمى العربى.. التجربة والآفاق» كعنوان لندوة ذات طابع راهنى بأفق مستقبلى وقراءة استشرافية، فرصة مناسبة لتبادل الآراء واستمزاج وجهات النظر، والاستئناس بأفكار حاولت ملامسة الجديد فى فكرة العروبة التى ظلّت تشغل الأفق السياسى والاستراتيجى لأغلبية مشاريع النهضة والإصلاح فى العالم العربى منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى الآن، وقد اتخذت ثلاثة اتجاهات أساسية:
الأول ــ «العروبة الثقافية»، وهى الفكرة التى حاولت محاكاة مشاريع النهضة الأوروبية التى كان توجّهها نحو «دولة مدنية»، وقد أخذت هذه الفكرة تتعمّق بالتجربة العملية، وبعد طائفة من الإخفاقات والممارسات السلبية التى عملت باسم «العروبة».
الثانى ــ «العروبة الأيديولوجية»، وهى الفكرة التى حاكت السياسة والتيارات القومية الأوروبية الاستعلائية الشوفينيّة بشيفرة قومويّة.
الثالث ــ «العروبة فى طور التكوين المؤسساتى»، وهى فكرة قامت عليها جامعة الدول العربية (22 مارس 1945) كمنظّمة إقليمية أرادها الآباء المؤسسون أن تكون نواة، أو خطوة للوحدة العربية، وعلى طريقها، وهى وإن أخفقت سياسيا فى حل المشكلات والنزاعات والحروب العربية ــ العربية، والعربية ــ الأجنبية، إلاّ أنها تمكنت من لعب دور إيجابى فى دعم البلدان العربية لنيل استقلالها والتحرر من الاستعمار، وفى دعم تنميتها، إضافة إلى مساندة القضية الفلسطينية فى المحافل الأممية ضدّ العدوان الإسرائيلى المتكرر.
وخلال القرن ونيّف الماضى، تعرّضت العروبة إلى تحدّيات عدة، من خارجها ومن داخلها، إذا جاز التعبير.
أولها ــ إخفاق المشروع السياسى الوحدوى وتضبّب صورته الحلمية، والأكثر من ذلك فإن الدولة العربية (القُطرية) التى اعتُبرت من مخرجات التجزئة، وسببا فى عدم تحقيق مشروع النهضة تصدّعت هى الأخرى بسبب الحروب والنزاعات الأهلية، إلى درجة أصبح الحفاظ عليها مهمة عروبية بامتياز. وثانيها ــ التداخلات الإقليمية غير العربية وتأثيرها فى القرار العربى. وثالثها ــ تراجع القضية الفلسطينية التى مثلت جامعا للعروبة الثقافية والمؤسساتية. ورابعها ــ انفجار الهويّات الفرعية وانبعاث رياح الطائفية والإثنية المناوئة لفكرة العروبة، خصوصا بعد تنكّر أو عدم اعتراف بها. وخامسها ــ الممارسات الاستبدادية السلبية لأنظمة حكمت باسم العروبة.
العروبة بصفتها هويّة منفتحة ليست ساكنة، أو نهائية، أو تمامية، لأنها متجدّدة ومتحوّلة ومتفاعلة، حيث تتغير بعض عناصرها مثل العادات والتقاليد والفنون والآداب، حذفا أو إضافة، ومثلما هى كذلك، فلا بدّ أن تقرّ باختلاف الهويّات، وتعترف بحقوقها وتتعامل معها كأمر واقعى، وليس مفتعلا، أو متخَيّلا، كما هى النظرة الاستعلائية الشوفينية. وهكذا يصبح من واجب العروبة المؤنسنة احترام حق كل شعب، أو مجموعة بشرية تشعر بوجود خصائص تجمعها، هوية وانتماء، بل وأن تعمل على مساعدتها فى تعزيز وتطوير خصوصيتها بما يجعلها تتفاعل إنسانيا معها.
وبهذا المعنى، لا يمكن اختزال العروبة بالقومية، أو العرق، أو النسب، وإذا ما فعلنا ذلك فأين سيكون مكان الأندلس، والمعتمد بن عبّاد، وابن طُفيل، وابن باجة، وابن حزم، وعبّاس بن فرناس، من فكرة العروبة؟
والعروبة هى لغة امرؤ القيس والمتنبّى وأبوالقاسم الشّابى وطه حسين وجبران خليل جبران والجواهرى، وكانت، ولا تزال فعل مواجهة، خصوصا حين تبلورت فى نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين من خلال مفكرين ورُوّاد مثل جورج أنطونيوس، وشكيب أرسلان، ورشيد رضا، والبساتنة، والريحانى، واليازجى، وصولا إلى ساطع الحصرى، ولعلّ ما هو مطلوب اليوم تعزيز العروبة وتجذيرها وتحصينها وأنسنتها بالحرية، والإقرار بالتنوّع وقبول الآخر والاعتراف بالحق فى الاختلاف.
وكان مشروع النهضة الأول الذى ساهم فيه الأفغانى ومحمد عبدو والكواكبى والطهطاوى والتونسى والقائينى، ارتكز على عاملين أساسيين، هما: الحريّة والتنمية، وهذان يمثلان الأساس للمشروع النهضوى العربى الحديث بأركانه الستة، وهى: التحرّر السياسى والتنمية الاقتصادية المستقلّة والوحدة العربية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتجدد الحضارى، وهو يمثّل العروبة المؤنسنة البعيدة عن التعصّب، ووليده التطرّف، ونتاجهما العنف والإرهاب. وبذلك يمكن أن نضع الجاحظ وابن خلدون وابن المقفّع وابن سينا وابن رشد وأبو نوّاس وسيبويه ونفطويه وبشار بن برد، وغيرهم، فى عداد من أسسوا للعروبة على أساس الثقافة واللغة.
وما تحتاج إليه العروبة اليوم هو إعادة هندستها لتكون أكثر انفتاحا وتعدّدية وقبولا للآخر، أى الإقرار بالتنوّع فى إطار الوحدة، وهو ما يجنّبها التفتّت والتذرّر ويجعلها جامعة ومتعددة فى آن.