من سيصل إلى «كش مات» على المسرح الأوكراني؟
خالد أبو بكر
آخر تحديث:
الثلاثاء 26 نوفمبر 2024 - 6:30 م
بتوقيت القاهرة
أحيانًا تكون السياسة الدولية مثل مباراة شطرنج تتبارى فيها القوى الكبرى على الخطوط الأخيرة؛ حيث لا مجال للتراجع. قرار جو بايدن بالسماح لأوكرانيا باستخدام صواريخ بعيدة المدى لضرب العمق الروسى لم يكن مجرد خطوة عسكرية؛ بل مقامرة سياسية تهدف إلى ترك بصمة تاريخية قبل أن يُسلم مفاتيح البيت الأبيض لدونالد ترامب. الرئيس القادم، الرجل الذى يُغنى لحن الصفقات أكثر مما يُشعل نيران الحروب.
لماذا الآن؟
قرار بايدن يبدو كأنه محاولة لتثبيت قواعد لعبة جديدة. الرسالة إلى أوكرانيا واضحة: «نحن معكم حتى النهاية». أما لموسكو، فالمعنى مختلف: «العمق الروسى لم يعد محصنًا». لكن الأهداف لا تتوقف عند ذلك؛ بايدن يريد أن يضع عراقيل أمام ترامب أو أى رئيس قادم، تجعل من الصعب التراجع عن دعم أوكرانيا دون تكلفة سياسية باهظة.
السماح بضرب العمق الروسى ليس مجرد تصعيد عسكرى؛ إنه خطوة تُعيد تشكيل الصراع. لكن هل يدرك بايدن ما الذى يعنيه هذا القرار؟ ذلك أن الرد الروسى قد يتجاوز حدود أوكرانيا. الكرملين قد يلجأ إلى ضربات غير تقليدية، مثل هجمات سيبرانية تستهدف البنى التحتية الغربية أو حتى تصعيد نووى تكتيكى، إذا شعر بوتين أن «روسيا نفسها» مهددة.
***
بوتين، الذى يدير حربه ببطء ولكن بثبات، يعتمد على استراتيجية النفس الطويل. لكنه الآن أمام اختبار جديد. ضرب العمق الروسى ليس مجرد ضربة عسكرية؛ إنه تحدٍ مباشر لمكانته كزعيم حريص على حماية الأراضى الروسية. لذلك فإن التصعيد الروسى قد يتخذ عدة أشكال: تكثيف الهجمات على البنية التحتية الأوكرانية، تلويح أكبر باستخدام النووى، أو حتى تعزيز التعاون العسكرى مع حلفاء مثل كوريا الشمالية.
لكن بوتين يواجه معضلة. التصعيد المفرط قد يُفقده دعم شركاء مثل الصين والهند، الذين يتجنبون الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة. اللعبة التى يلعبها بوتين الآن تتطلب توازنًا دقيقًا بين الردع والتصعيد المحسوب، مع الاستمرار فى استنزاف الغرب وأوكرانيا.
وسط هذا المشهد، يظهر ترامب كعنصر غامض. الرجل الذى وعد بإنهاء الحرب «فى 24 ساعة» قد يرى فى أوكرانيا فرصة لتفاوض يفضى إلى صفقة تاريخية مع بوتين. بالنسبة لترامب، الصراع ليس سوى أزمة أخرى تحتاج إلى حل سريع ومربح. لكن هل ستكون هذه الصفقة فى مصلحة أوكرانيا؟ السيناريو الأكثر واقعية هو أن ترامب قد يضغط على كييف للتنازل عن أراضٍ مقابل وقف القتال، مما يحقق لبوتين مكاسب سياسية دون تكلفة عسكرية إضافية.
مع ذلك، ترامب ليس بلا قيود. الكونجرس، بما فى ذلك الجمهوريون، يدعمون أوكرانيا كجزء من استراتيجية ردع النفوذ الروسى. لذا فإن أى تراجع كبير قد يُفسر على أنه ضعف أمريكى ويفتح الباب أمام تحديات أخرى فى آسيا والشرق الأوسط. لذلك سيتعين على ترامب أن يوازن بين ميوله الغريزية كرجل أعمال للصفقات السريعة وبين الحسابات الاستراتيجية طويلة الأمد.
***
الخوف الحقيقى فى هذه اللحظة المجنونة التى يعيشها العالم يأتى من زاوية أن قرارات بايدن التصعيدية قد تُشعل حريقًا لا يمكن السيطرة عليه. ضرب العمق الروسى قد يتحول من خطوة تكتيكية إلى شرارة تُشعل مواجهة أوسع. بوتين قد يرد بطرق غير متوقعة، وترامب قد يدخل المشهد ليجد عالمًا على حافة الهاوية.
لكن اللعبة لا تتعلق فقط باللاعبين الكبار. إنها اختبار للنظام العالمى بأسره. كيف ستتعامل الصين مع أى تصعيد؟ وما موقف أوروبا إذا تحولت الحرب إلى نزاع أوسع؟ الأسئلة أكثر من الإجابات، وكلها تحمل إشارات بأن القادم قد يكون أكثر خطورة.
وسط هذه الحسابات الكبرى، يبقى الجانب الإنسانى غائبًا عن الطاولة. ملايين الأوكرانيين يواجهون شتاءً قاسيًا مع استمرار تدمير البنية التحتية للطاقة. فى روسيا، يُجبر آلاف الشباب على القتال فى حرب لا تبدو لها نهاية، لأجل مجد السيد بوتين، كما يقول الفارون منهم على مقاهى أوروبا.
***
لعبة الشطرنج السياسية هذه لا تبدو قريبة من نهايتها. بايدن يُحرك القطع بجرأة، وترامب يراقب ليقرر إن كان سيعقد صفقة تُنهى اللعبة أو تُبقيها معلقة. بوتين، فى المقابل، يُعيد ترتيب أوراقه، مستعدًا لتحويل أى خطوة غير محسوبة إلى مكاسب له.
لكن الحقيقة المريرة أن «كش مات»، حين تأتى، قد لا تكون فى صالح أى طرف. قرارات اليوم ستُحدد ملامح النظام العالمى لعقود، فهل تُنهى اللعبة بسلام، أم تحرق الشطرنج بمن عليه؟