رجعية وعنصرية للغاية ودموية أيضا.. تلك هى الصهيونية الإسرائيلية
محمد عبدالشفيع عيسى
آخر تحديث:
الخميس 26 ديسمبر 2024 - 7:35 م
بتوقيت القاهرة
منذ طوفان الأقصى فى السابع من أكتوبر 2023 تم افتتاح فصل جديد، إلى حد بعيد، فى تاريخ البشرية والعالم المعاصر، وكذا فى تاريخ العلم الاجتماعى وخاصة علم القانون والقانون الدولى العام. يعود هذا الفصل الجديد فى تاريخ البشرية والعالم المعاصر، فى أصوله الأولى، إلى تاريخ القتل والقتال، كشكل مخصوص من العنف الشامل المنظم.
ذلك هو تاريخ الحضارة، من أسف، حيث الحضارة قرينة الحرب والعنف الشامل والقتل والقتال المنظّم. هذا ما انتبه إليه سيجموند فرويد، رائد علم النفس التحليلى فى العصر الحديث، معتبرا الحضارة والحرب صنويْن لا يفترقان. وأما قبل ذلك فإن المجتمعات فى عصور ما قبل التاريخ وفى مراحل تاريخ البدائية، لم تكن تعرف «الحرب» بمعناها المعلوم.
ذلك يذكرنا أيضا بكتاب الفيلسوف هربرت ماركوز، رائد الدراسة الفلسفية حول «الإنسان» المعاصر، فى ظل «حضارة الُبعد الواحد»، وهو مؤلف كتاب Eros and Civilization و«إيروس» هو إله الحب أو العشق عند الإغريق القدماء، وترجمه «جورج طرابيش» بــ «الحب والحضارة». فإذا الحب، كالحرب، نتاج التحضر أو «التمدن» على أنقاض الفطرة «البدائية» الأولى. وكما أن استراتيجيات الحروب فى العصور القديمة (كما فى الصين القديمة ومصر القديمة والشرق الأدنى) وليدة المدنية، ولو فى أشكالها الأولية، فكذلك كانت استراتيجيات الحب والتزاوج وأنظمة الزواج والاقتران، بين الرجل والمرأة، نتاجا تدريجيا، بل وبما تدّرجيا أيضا، لعملية التحضر أو التمدن، المقرونة بالانتقال من نظام اجتماعى إلى نظام آخر. فقد تحقق الانتقال من «اللانظام» الأوّلى primitive إلى النظام الاجتماعى الجماعى (أو المشاعى) ثم العبودى، وإلى الأسرة «الأمومية»، وكذا إلى حضارة الحجر والنار والحديد، ومن مجرد الصيد والقنص وقطف الثمار إلى الزراعة بالذات.
هكذا إذن سيرة الحرب والحبّ، والتحضر، والزرع والضرع، نشأت وتطورت معا إلى حد بعيد.
• • •
من عجب، وإن كان لا عجب، أن يؤدى «التحضر الإنتاجى» من خلال الرعى والزراعة، إلى تشكيلات اجتماعية طبقية ذات طابع تراتبى جامد، بدءا من العبودية، إلى الرأسمالية المعاصرة.
وبذلك نشأت نظم «التفرقة» بين البشر، حسب مواقعهم التدرجية من النظم الإنتاجية، من خلال «الإقطاع» وما يسمى «أسلوب الإنتاج الآسيوى»، فى العصور القديمة والوسطى، إلى رأسمالية الربح والأجر فى العصر الحديث.
وتوالدت ثم ترسخت المظالم القائمة على «القمع»، قمع النشاط الاقتصادى والسلوك العاطفى، وتم تقنين الظلم والقمع، من خلال بعض أنظمة الحرب والحب، إن صحّ التعبير. ولكنْ خفّف من وقع الظلم والقمع، ظهور الأديان، الطبيعية القديمة، فالأخلاقية بعد ذلك (البوذية والكونفوشيوسية والزرادشتية مثلاً) ثم الأديان السماوية: اليهودية والمسيحية والإسلام.
ولولا الأديان، كالإسلام والمسيحية، لتحولت أنظمة التحضر إلى أنظمة «التوحش» الخالص. ولكن «التوحش» بقى وتفاقم، مع ذلك، حتى صار الحب (النقى) وكأنه من المحرمات أحيانا كثيرة؛ وتحول الزواج إلى سلطة، وتحولت الحرب إلى فنّ وعلم فى آن معا. وتولدت «الدعارة» المنظّمة، كبديل للحب الزواجى - الأسرى الحقيقى، كما تطورت فنون وعلوم القتل والقتال، من خلال استراتيجيات منظمة للحروب، وخاصة فى أواخر العصور الوسطى ثم طيلة العصر الحديث.
• • •
فى خضمّ تطور القتل والقتال، و(تحضر القتل والقتال)، تم «اختراع الإبادة البشرية والجماعية على نطاقات متفاوتة. هناك الإبادة الجزئية والمتقطعة والمحدودة زمانا ومكانا، كتلك التى قام بها التتار أو المغول فى أواسط العصور الوسطى (مثال سقوط بغداد على يد هولاكو عام 1258) وهناك الإبادة الأكثر تنظيما والأوسع نطاقا من خلال الحروب، سواء فى أوروبا (حرب المائة عام، حرب الثلاثين سنة)، أو فى أوراسيا (الغزوات والحروب الإقليمية المحدودة فى آسيا الوسطى) أو تلك الموجهّة ضد الشام وفلسطين (حرب الفرنجة أو «الصليبيين» نموذجا). ومع تفاقم النظام الطبقى الرأسمالى الأوروبى الغربى بالذات، ثم الأمريكى بعد ذلك، فإن (إله الرأسمال المتوحش)، إن صح هذا التعبير، أصبح يمثل نظاما كاملا، داخليا وإقليميا وعلى المستوى العابر للأقاليم والحدود والبحار.
ثم إذا برأس المال العالمى ذاك، عابر الحدود والبحار، يتحول إلى (نظام) عالمى هو «نظام المستعمرات» فى القرنين السادس عشر والسابع عشر Colonial System وخاصة فى سواحل إفريقيا وآسيا. وفى القارة الأمريكية بالذات، وقع أول نظام متكامل للإبادة البشرية الجماعية على أيدى الأوروبيين (البيض) الذين استجلبوا الإفريقيين إلى «العالم الجديد» وحوّلوهم إلى عبيد بعد التضحية بأرواح الملايين منهم على متن السفن العابرة لـ«بحر الظلمات». وتمت إبادة البشر والحجر على يد أولئك الأوروبيين الذين استخدموا البارود فى الاستيلاء على الممتلكات والقضاء على أهل البلاد ذوى الحضارات الزاهرة فى القارتين الأمريكيتين شمالا وجنوبا، وبخاصة شمالا، إبادة تامّة أو شبه تامّة، بعد أن أسموا من بقى حيا منهم (السكان الأصليين) تحت مسمّى «الهنود الحمر!».
بالترافق مع ذلك ومن بعده، نشأ وتطور نظام استعمارى كامل (الإمبريالية) وخاصة فى القرنين التاسع عشر والعشرين. وكان رأس المال اليهودى بالذات، المولود فى «جيتو» أوروبا الشرقية، سبّاقا إلى التسابق ذى الطابع الاستعمارى، لمحاولة حل المشكلة اليهودية (الجيتوية) فى أوروبا عبر تصديرها إلى خارج. وتم ذلك فى إطار منظم تقريبا من خلال «المؤتمر اليهودى» على يد هرتزل فى مؤتمره الأول عام 1897. ووُلدت الصهيونية، وإذا بالصهيونية أعلى مراحل الإمبريالية. وبعد أن كانت محاولة تصدير المشكلة اليهودية الأوروبية، متجهة فى أوائل القرن العشرين إلى بلدان عدة، كالأرجنتين وأوغندا، إذا بها تتجه ثم تتركز ناحية سيناء (العريش) وفلسطين بالذات. ولأسباب عدة، تركز المسعى الصهيونى لتصدير المشكلة، فى البحث عن مأوى منظم (سُمّى بالموطن Homeland)، فى فلسطين بالذات، بدءا من وعد بلفور عام 1907، ثم العمل من باطن الانتداب البريطانى على فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى، انتهاء بحرب الاستيلاء على كامل فلسطين تقريبا، على دفعات، من عام 1948 إلى 1967 وحتى الآن، عبر قضم تدريجى لفلسطين المحتلة. وظل «القضم» متواصلا حتى تفجرت نتائجه الكارثية يوم انفجار طوفان الأقصى فى السابع من أكتوبر 2023. وبعد أحداث (الطوفان) عادت الصهيونية أعلى مراحل الإمبريالية، فبلورت منظومة فكرية وتطبيقية للإبادة البشرية والجماعية Genocide.
• • •
هذا، وكانت قد وُجدت سلسلة (متحضرة!) من أعمال ونظم الإبادة، العامة أحيانا والمتقطعة أحيانا أخرى، فى القرن العشرين. ونذكر هنا بعض ممارسات الاستعمار اليابانى فى آسيا والصين (خاصة منشوريا) بين الحربين العالميتين، والإبادة الجماعية التى قام بها الاستعمار الإيطالى فى ليبيا بعد 1911 (انظر كتاب «على عبد اللطيف أحميده» حول الإبادة الجماعية فى ليبيا)، ثم (هولوكوست) هتلر فى ألمانيا وأوروبا الشرقية، ضد الأقلية اليهودية.
لعلنا نشير هنا، بالمناسبة، إلى ضرورة تنقية التاريخ، بما فيه التاريخ الاستعمارى! من الأوهام والمبالغات والأباطيل؛ وهذا ما قام به الفليسوف (رجاء جارودى) (روجيه جارودى) عن الأساطير المؤسسة للصهيونية، بما فيها المحرقة (أو الهولوكوست).
والآن تقوم حرب الإبادة الجماعية الصهيونية الراهنة ضد الشعب الفلسطينى وخاصة فى غزة المناضلة، على قدميْن وساقيْن، فلابد إذن من تعريتها، وكشف جوهرها المعادى للإنسانية، والذى يقع تحت غطاء زائف من «التحضر» و«التمدن» الصهيونى! القادم من عالم الغرب الأمريكى -الأوروبى. إبادة بشرية و«هولوكوست فلسطينى»، ومحرقة حقيقية تتواصل، (على مدار الأربع وعشرين ساعة) كما يقولون، تحت أضواء آلات التصوير الحديث، أمام أعين البشرية كافة، وفى الأركان الأربعة للمعمورة.
وإنها لإبادة جماعية، تقوم بمحاولة إلغاء (الآخر– العربى الفلسطينى) إلغاء تاما، أو تحاول ذلك. ولكن هل يمكن ذلك؟ وهل يمكن إخفاء الجوهر الرجعى – العنصرى والدموى للعمل الإبادى للاستعمار الصهيونى -الاستيطانى لفلسطين (وإنْ تحضّر)؟! لا ليس ذاك، فلن يمكن إخفاء وجه الحقيقة، ما دامت الشمس مشرقة، والقمر منيرا.
وإلا فلترتفعْ إذن أعلام الإشراق والإنارة، ليتجلّى الحق العربى – الفلسطينى الناصع، ويذهب الباطل الصهيونى إلى غياهب النسيان.