الرغبة فى تجميد الزمن العربى
علي محمد فخرو
آخر تحديث:
الخميس 27 فبراير 2014 - 2:20 م
بتوقيت القاهرة
منذ تفجّرت ثورات وحراكات الربيع العربى منذ ثلاث سنوات وموجة استنفار المفكّرين والمثقَّفين والنَّاشطين السياسيين العرب، من أجل المشاركة فى ساحات الإعلام المرئى والسَّمعى وقاعات المحاضرات والمؤتمرات وصفحات الصحف ووسائل التواصل الإلكترونية، لا تستقرُّ ولا تهدأ، بل إنها موجة فى صعود وازدياد فى الزُّخم.
لكن ما يشدُّ الانتباه هو أن معظم تلك المناقشات والسجالات والكتابات تتوجه لإقناع الجموع العربية بقبول وتبنى أفكار وخطابات ونظم وشعارات أصبحت منذ عشرات السنين من ثوابت وممارسات ومتطلبات العصر الإنسانى الذى يعيشه العالم، هذا بينما نحن ندور من حولها.
إن ثوابت من مثل عناوين الحرية الشخصية وحرية العقيدة والضمير والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة والإعلام المستقل والشفافية فى الحكم والتسامح بين مكونات المجتمع والمواطنة غير المنقوصة وغيرها كثير تقبلها غالبية الناس كلمات وعناوين وتعابير، لكنها ترفض الكثير من محتوياتها وتفاصيلها، وهنا تكمن المشكلة، إذ إن ضمير وقيم وقوانين العصر هى فى تلك التفاصيل.
•••
هنا تضطر أن تطرح على نفسك هذا السؤال البائس: هل أن عصور التخلف والاستبداد والتسلُّط التى فرضت على مجتمعات العرب عبر القرون قد فعلت فعلها على قابلية كثير من العرب دخول العصر والتعايش مع الكثير من ثوابته الإنسانية المبهرة؟
دعنا نضرب بعض الأمثلة لتوضيح صعوبة المشكلة التى يواجهها دعاة التناغم مع العصر.
ما إن تذكر الديمقراطية حتى ينبرى أحدهم ويسأل: لماذا الديمقراطية وليس الشورى الإسلامية؟ يجيب المتحدث بأن الشورى هو توجيه إلهى عام ويحتاج إلى الكثير من التفصيل بالنسبة لمكوناته ومرجعيّاته وتنظيمه وتطبيقاته وبالتالى فلماذا لا نلتزم بالتوجيه الإلهى العام وفى نفس الوقت نأخذ بتفاصيل النظام الشورى البشرى الديمقراطى كتطبيق للأمر الإلهي؟ جواب السائل يكون بالتركيز على كل ما هو سلبى فى تطبيق الديمقراطية ونسيان متعمدّ لكلّ ما هو إيجابى مبهر فى التجربة الديمقراطية الإنسانية. وشيئا فشيئا يختفى موضوع الديمقراطية ليصبح النقاش حول موضوع فقهى ــ سياسى بالغ التعقيد والغموض ومختلف من حول فهمه وتطبيقاته حتى من قبل بعض الفقهاء، موضوع «الحاكمية لله» والنتيجة هى بقاء الأمة تحت جحيم الاستبداد والاستغلال بانتظار حل إشكالية فهم عربى مقبول للديمقراطية.
مثال ثان، يتحدث المحاضر عن حقوق المرأة فيزجُّ موضوع قوامة الرجل بقراءة متناقضة مع العدالة الإلهية، مرسخة لعادات بدويّة قديمة متخلفة، ومدمّرة لأسس الديمقراطية وللكرامة الإنسانية.
مثال ثالث، يتحدث المتكلم عن الحقوق المتساوية فى ساحة النشاط السياسى الديمقراطية للمنتمين لكل الطوائف فيزج بموضوع ولاية الفقيه. يجيب المتحدث بأن الديمقراطية تتعارض مع أية ولاية ومن اى نوع كان، سواء أكانت لفقيه أو لأيديولوجية أو حزب طليعى أو قائد فذ، فيكون الجواب العبثى هو دعك من هذا الهراء فنحن نعرف أن ممارسة التقيّة ستقود عاجلا أو آجلا إلى ولاية الفقيه. وهكذا تدخل فى دوَّامة التاريخ والأخطاء التى يرتكبها بعض الساسة الإسلاميين والصّراعات السياسية السنية ــ الشيعية فى هذه البقعة أو تلك، وينزوى موضوع التخلُّص من الطائفية عن طريق الديمقراطية.
مثال رابع، يكون الحديث عن الأهمية القصوى لموضوع التسامح فى ايامنا الحالية، سواء على مستوى الأخلاق أم الثقافة أم الدين أم القانون، فيصرخ أحدهم: هل فى تطبيق القانون تسامح؟ يكون الجواب بأنه لا تسامح مع كسر القانون، ولكن شرط أن يكون القانون عادلا وشرط أن تكون الجهة التى تطبّق القانون عادلة. يؤكد المتحدث بأنه عند ذاك لن تدخل الغوغائية السياسية فى موضوع العدالة والذى ساحته يجب أن تدار بموضوعية وضمير وسمو إنسانى. لكن السائل معنى بالانتقام والتصفيات ضد خصومه فى هذا الحزب أو فى تلك الجماعة، ولا وقت لديه لموضوع العدالة وشروطها الصَارمة.
•••
ليس الهدف هو الانتقاص من قيمة هذه الرؤية أو تلك، ولكن الهدف هو إبراز ضيق الساحة الفكرية التى تجرى فيها مناقشات كبرى مصيرية. ضيق الساحة يأتى من الإصرار على زج التراث الدينى، وبعضه فقه متزمت باجتهاد بشرى مغلوط، وزجّ التاريخ وخلافاته العبثية فى كل نقاش، بينما لا تسمع أحدا يشير إلى دراسات نقدية أو أبحاث رصينة أو اكتشافات جديدة، لكأنّ الحاضرين هم من أصحاب الكهف ولكأنّ الزمن العربى يراد له أن يتجمَّد ويتحنَّط.
ما يراه الإنسان مبطّنا فى أجواء تلك النقاشات هو رغبة البعض فى أن تكون ثورات وحراكات الربيع العربى ثورات عبيد لا تؤدّى إلى خلق مجتمعات حرَّة وإنّما تنتهى باستبدال أسياد طغاة سابقين بأسياد جدد.
لكن من حسن الحظ فإنُّ شباب ثورات وحراكات الربيع العربى الأحرار فى القلب والعقل والروح لن يسمحوا بذلك، طال الزّمن أو قصر.