الشمال والجنوب فى زمن مختلف
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 27 فبراير 2019 - 11:30 م
بتوقيت القاهرة
الصور التى خرجت من مؤتمر القمة الأوروبية العربية قالت الكثير. قالت أكثر مما قاله رؤساء وأعضاء الوفود والمعلقون والمؤثرون من صانعى الرأى والمتطفلين عليهم. صور أمن المؤتمر، أمن القادة والمشاركين من أعضاء الوفود وأمن القاعات وأمن الإعلاميات والإعلاميين، أمن الركائب والسفر ومداخل المدينة ووسائل الاتصال، كل هذه الصور وغيرها قالت الكثير عن الإرهاب، موضوع المؤتمر والشغل الشاغل للقادة المشاركين والغائبين وموظفيهم والأجهزة المكلفة بحماية المسئولين والمؤسسات فى كل الدول المشاركة فى المؤتمر والنسبة الغالبة فى المجتمع الدولى عموما.
أهمية الصور ليس فقط فيما قالته وتقوله ولكن أيضا فيما لم تقله أو لم تفلح فى التعبير عنه بالقوة اللازمة والفهم الصحيح. عرضت الصور لقاعة هائلة لا أذكر أنى رأيت قاعة مؤتمرات بهذا الاتساع. يتفاجأ الناظر بالصورة فتتعدد أمامه الاحتمالات والتفسيرات على نحو أتخيله كالتالى:
أولا: هذا الفراغ الرهيب الذى يتوسط القاعة يعكس فى ذهن المراقب مسألتين فى وقت واحد. بداية يعكس القناعة السائدة فى دوائر العصف الفكرى ومراكز البحوث ومجالس الشئون الخارجية بأن النظام الدولى فى حالته الراهنة يفتقر إلى قيادة تملأ هذا الفراغ، سواء كانت هذه القيادة دولة عظمى واحدة أو توازن بين عدد من الدول العظمى. إن استمرار الفراغ على هذا النحو، كما ظهر فى الصورة، يعنى أن طرفى هذا المؤتمر وأطراف مؤتمرات أخرى وآخرها مؤتمر ميونيخ للأمن لا شك يجدون صعوبة فى تسوية القضايا الشائكة فى علاقات الدول. قضايا كثيرة لن يجرى حسمها وستبقى عنصرا سلبيا ومؤثرا فى مناخ العلاقات الدولية. المسألة الثانية التى يمكن أن يعكسها هذا الفراغ الذى يتوسط القاعة هو التأكيد بأن الهوة الفاصلة بين مجموعة دول متقدمة ومجموعة دول متخلفة أوسع كثيرا من كل آمال سدها أو على الأقل تضييقها.
ثانيا: كشفت الصور المأخوذة خلسة أن الدول الأعضاء فى كل مجموعة ينقصها الوفاق والاتفاق. جاء بعضها يحمل على أكتاف زعمائه أعباء مشاكل لا علاقة لها بالقضايا المطروحة على هذا المؤتمر. المثال البارز بقسوة جسدته سلوكيات الوفد البريطانى ورئاسة الاتحاد الأوروبى. بدا واضحا أن أزمة البريكسيت قد تجاوزت حدود طاقة احتمال المفاوضين. وفى الوقت نفسه تسببت فى أن يكشف الاتحاد الأوروبى عن حالة ضعف تعتريه وقد تعيش معه طويلا إذا لم يحل بسرعة الأزمة ويمحو تداعياتها وبخاصة فى دول هشة ومترددة كما فى شرق ووسط أوروبا. يوما بعد يوم يتسرب إلى دول عديدة فى القارة الأوروبية وخارجها أن بريطانيا لن تعود بعد هذه الأزمة إلى حالتها أو مكانتها أو حتى مكانها فى عالم القيادة الدولية. أضيف من عندى اقتناعى الشخصى أن الاتحاد الأوروبى نفسه لن يعود إلى الأمل فى أن يحقق ما قام من أجله. لا يجب أن ننسى أن سباقا هائلا بين روسيا والصين والولايات المتحدة قد انطلق بالفعل، بدأ ناعما ولن يبقى هكذا طويلا، وأن جولته الأولى سوف تكون فى أوروبا طبقا لتقاليد وقواعد الانتقال فى النظام الدولى خلال القرون الأخيرة. وفى ظنى أن أوروبا لن تكون جاهزة حتى لأداء وظيفة حماية نفسها ضد تجاوزات المتسابقين الثلاثة على أرضها وفى بحارها وأجوائها.
ثالثا: قرأت فى الصور أن دولا عديدة مشاركة فى المؤتمر لم تفلح فى إخفاء نوازع التشرذم والخلاف سواء فى داخل مجموعتها أم فى علاقاتها بدول فى المجموعة الأخرى. العرب جاءوا مختلفين على مسائل عديدة وإن اتفقوا على إخفاء عدم اتفاقهم على مسائل أخرى لعلمهم بأن الأوروبيين لن يسامحوهم لو أثاروا قضية خلافية بعينها. مثلا ما كان يمكن أن تقبل أوروبا أن تظهر ضعيفة فى موقفها الرافض للسياسة الأمريكية تجاه اتفاقية إيران النووية إذا تركت بعض العرب يفرضون على البيان المشترك رأيهم فى إيران بالصراحة والغضب اللذين يفوحان فى تصريحاتهم وأجهزة إعلامهم.
رأينا أيضا آثار الشقاق الداخلى على وجوه الفرنسيين والإيطاليين. لم ندرك فى سنوات أوج العولمة وصعود أفكار الوحدة الأوروبية وبدء صعود الصين وعودة روسيا أن الاستعمار الأوروبى سوف يحشد قواه ويستعد لغزو إفريقيا مرة أخرى وتثبيت مواقع له فيها أحيانا تحت شعار مكافحة الإرهاب وقبل أن يستقر المستعمرون الجدد. السباق على إفريقيا تجدد بالفعل ومنذ اللحظة الأولى غرس الوقيعة بين دول أوروبية أعضاء فى مشروع الوحدة الأوروبية وبين الدول العربية الحريصة على أن تلعب ورقة الاستعمار مستخدمة ورقة الدين وأوراق المال ومستعينة بشركات مرتزقة أجنبية. دخلت أيضا مهرولة إسرائيل ودول إقليمية أخرى. لا أحد من بين كل هؤلاء مستعد لأن يتساهل فى حقه فى أن يشترك فى عملية نهب جديدة للقارة السوداء. رأينا الحليفين المتجاورين الشريكين فى تأسيس مشروع أوروبا الموحدة إيطاليا وفرنسا مشتبكتين فى نزاع حاد للإجابة عن السؤال: من يملك ليبيا؟. الاجابة لن تقتصر على روما وباريس فهناك فى القاهرة وتونس والجزائروموسكو وأنقرة ولندن وعواصم خليجية والخرطوم وصحراوات مالى والنيجر وتشاد من يريد أن يكون طرفا فى الإجابة. بعض هذه العواصم والبوادى تشجع الإرهاب وتمول ميليشيات من المرتزقة المسلحة وشاركت فى هذا المؤتمر معلنة بالصوت والصورة أنها تبارك الفقرة عن مكافحة الإرهاب فى البيان الذى سوف يصدر عن المؤتمر.
رابعا: توقفت طويلا أمام ملاحظات أبداها أكثر من مفاوض مشارك فى أعمال هذا المؤتمر حول ضرورة مراعاة كل طرف للثقافة الشعبية للطرف الآخر. لا شك أن الاختلافات التفصيلية كثيرة بين الثقافتين الأوروبية والعربية، ولكنه صحيح أيضا أن فى أقاليم عديدة فى أوروبا توجد ثقافات محلية جدا تؤثر فى نتائج الانتخابات وتظهر فى نمو الحركات المتطرفة وطنيا أو قوميا أو أيديولوجيا، وبعضها يعطل إطراد عملية التنمية عموما والسياسية خصوصا. تابعت الأسبوع الماضى بدرجة من الانبهار المختلط بالسخرية خلاف إيطاليا وفرنسا على من منهما يحق له الاحتفال بمرور خمسمائة عام على وفاة ليوناردو دافنشى. إيطاليا وكتب الفن والتاريخ تسجل أنه إيطالى، فرنسا وسجلاتها تؤكد أنه مات فى فرنسا تحت اسم ليونارد وليس ليوناردو، وبالتالى يحق لفرنسا الاحتفال بذكراه. أتساءل بينى وبين نفسى هل يختلف هذا النزاع الذى يهدد العلاقة بين حليفتين عن نزاعات دموية بطول التاريخ بين دول عربية حول مسائل مشابهة وبعضها كان موجودا فى المؤتمر ولكن مختفيا تحت عناوين وهمية أو بأسماء مستعارة.
***
انتهت مشاهدتى لصور وخرجت بانطباعات سوف تجد ما يفندها أو يؤكدها فى ما سوف اقرأه من انطباعات غيرى. أما انطباعاتى فأهمها أولا: أن الفجوة بين التقدم والتخلف فى عالم اليوم صارت أكثر اتساعا من الفجوة التى كانت يوم بدأت أهتم بالسياسة الدولية وأفكار التحديث. ثانيا: إننا فى إفريقيا مقبلون على حالة جديدة من «السعار الاستعمارى»، حالة تندرج فيها دول صغيرة كانت هى نفسها إلى عهد قريب جديد مستعمرات أو أقاليم تعرضت للنهب الاستعمارى. ثالثا: تعود، أو لعلها بقيت وإن مستترة، فكرة أو حكمة «رسالة الرجل الأبيض»، تعود لتوجه أحيانا أو لتبرر فى أحيان أخرى التدخل الأوروبى فى شئون الدول السمراء، وفى طياتها قيم تذكرها جيدا الأجيال التى عاشت بعض سنوات من الاستعمار الغربى. تذكر ولا شك من تلك القيم النفاق والمعايير المتناقضة والكذب الصريح والعنصرية واستخدام الفتن الطائفية أو تشجيعها. هل بيننا من ينكر الحال التى آل إليها العراق الشقيق على يد الاحتلال الأمريكى وطلائعه من السياسيين العراقيين أو الأحوال فى بلاد أخرى عربية وإفريقية وفى أمريكا اللاتينية تتعرض حاليا لتدخلات من أنواع شتى. رابعا: إن معظم السياسيين العرب لم يستقروا بعد على تبعية جديدة، أو ما يسمى بعلاقة اعتماد جديدة تضمن لهم الحماية والنصيحة. هذه كانت عادة سياسية شرق أوسطية منذ قرون، ولم تختف. أما السبب فى الحيرة السائدة حاليا فى البحث عن مصدر خارجى واحد وثابت للأمن وقيادة التنمية أو إعادة توجيهها فسيكون غالبا حال الفراغ فى القمة وحمى السباق الثلاثى نحوها، وهنا لم أر فى الصور اختلافا كبيرا فى مواقف طرفى المؤتمر، ولكنى رأيت وبوضوح نقصا فى الثقة العربية بصلاحية أوروبا لهذا الدور، دور الحماية والتوجيه، سواء فى الوقت الراهن أو المستقبل المنظور.