التناقضات هى سمة العصر
علي محمد فخرو
آخر تحديث:
الأربعاء 27 فبراير 2019 - 11:30 م
بتوقيت القاهرة
نحن نعيش فى عالم ملىء بالتناقضات، التى تبدو أحيانا ككوميديا ساخرة مضحكة، وأحيانا تظهر كتراجيديا تبعث على الغثيان واليأس.
لننظر إلى موضوع بعبع الإرهاب فى واقع العالم الحالى.. اجتماعات دولية من دول منتقاة بعناية فائقة، تنعقد فى شتى بلدان الغرب وبلدان الوطن العربى، ودائما تحت جناح ومراقبة الولايات المتحدة الأميركية، لتصدر بيانات وتوصيات بشأن مكافحة الإرهاب ودحر قواه فى الأرض العربية على الأخص، وبشأن منع انتشاره على الأخص فى بلدان أوروبا، لكن فى صور مجزأة ومبهمة.
لا يتعب المجتمعون أنفسهم، ولو مرة واحدة، بذكر تعريف واضح وشامل لكلمة الإرهاب. تجنب التعريف سيبعدهم عن ذكر إرهاب الدولة الذى يتمثل فى أقصى وأبشع صوره فى شتى أنواع الإرهاب الجسدى والمادى المباشر والإرهاب المعنوى الحقوقى الذى تمارسه يوميا سلطات الاحتلال الصهيونى فى فلسطين.
التناقض هو فى العملية الانتقائية التى تذرف دموع التماسيح على الضحايا العرب فى سوريا والعراق وليبيا ومصر والصومال واليمن ولكنها، بتعمد ووقاحة، تتجاهل الضحايا العرب الفلسطينيين.
لا يقف الأمر عند موضوع تجنُب التعريف وما سيشمل، وفى ممارسة الانتقائية بالنسبة لضحايا الإرهاب، وإنما يتعداه إلى السكوت التام عن أية إشارة إلى جهات التمويل والتسليح والتدريب وتسهيل الانتقال للقوى الإرهابية. ليس لأن المجتمعين ومصدرى البيانات يجهلون ذلك، بل لأن بعضا من الحاضرين هم الممولون والمسلحون والمدربون والمسهلون لسفر المجرم إلى ساحات الإرهاب. بهذا التجاهل يبدو التناقض واضحا من خلال المعالجة الجزئية بمواجهة أعراض المرض دون أسبابه ومسبباته، ومن خلال مشى القاتل وراء جنازة المقتول، دون أن يصرخ أحد: «قاتل، قاتل!».
بل يبدو التناقض الصارخ بين ما يقال ادعاء عن المواجهة وبين ما يراد أن يستمر بألف شكل وشكل لإنهاك المجتمعات التى تواجه الإرهاب. التنديد بالإرهاب واجهة تخفى هدف إنهاك وذبح أمة العرب.
***
لا نستطيع أن نصدق بأن استخبارات كل تلك الدول المجتمعة، العاملة بتناغم وتعاضد عندما تشتهى، والقدرات التكنولوجية الهائلة عند البعض، تبقى، سنة بعد سنة، عاجزة عن حسم موضوع الإرهاب. تلك القدرات الهائلة تتناقض مع النتائج المتواضعة. ذلك الحماس فى البيانات والتوصيات يتناقض مع التكهنات بأننا سنعيش مع ظاهرة الإرهاب لعقود قادمة. ثرثرة اللسان تتناقض مع عجز اليد.
لننظر إلى موضوع الصواريخ الباليستية الطويلة المدى. فى كل يوم نسمع ونقرأ عن الأخطار المحدقة بالعالم من جراء تصنيع أو امتلاك مثل تلك الأسلحة من قبل هذه الدولة أو تلك لكن، وبصورة مفاجئة تفضح التناقض بين الأقوال والفعل، تنسحب أكبر وأكفأ جهتين صانعتين للأسلحة الصاروخية من اتفاقية الحد من تطوير الصواريخ، وتقرران علنا بأنهما فى طريقهما لمزيد من التطوير وإنتاج أسلحة باليستية أفتك وأسرع وأكثر رعبا.
إنه تناقض القول مع الفعل عندما يصُب فى المصالح الوطنية الضيقة. عند ذاك يصبح الخوف على العالم كله ثانويا بالنسبة للأمن الوطنى المحدود. هذه الثنائية فيما الأنا والآخرون أصبح رذيلة مقبولة فى الساحة السياسية العولمية.
لننظر إلى الطهارة التى يجب أن تتجسد فى مؤسسات وعلماء الدين كبديهية لا تنفصل عن متطلبات السمو الإنسانى من خلال الدين.
يوميا تنفجر فى وجوهنا فضائح رجالات الدين المالية والجنسية والتغطية على رجال الساسة الفاسدين المستبدين، ما يجعلنا أمام تناقض صارخ بين ما تدعو له الديانات من طهارة القول والفعل والالتزام الخلقى وبين ما يمارسه بعض رجالات الدين أو تزخر به بعض مؤسسات الدين من ابتعاد تام عن الطهارة، بل وأحيانا من انغماس تام فى النجاسة.
لننظر إلى الحرب الشرسة التى شنتها النيولبرالية الرأسمالية العولمية على كل ما سبقها من أيديولوجيات اشتهر بها القرن العشرين على الأخص. وكان الادعاء يقوم على أساس أن الأيديولوجيات تتصف بالإصرار على نظام سياسى – اقتصادى – اجتماعى شمولى لا يقبل التجزأة.
لكن النيولبرالية تتناقض اليوم مع أقوالها السابقة، إذ تقدُم نفسها كأيديولوجية شمولية. فما عادت موضوعا اقتصاديا بحتا، بل أصبحت لها مواقف سياسية من الدولة، واجتماعية من خدمات الرعاية الاجتماعية للمواطنين، وسلوكية لا تقبل إلا الحرية الفردية المطلقة، وإعلامية لا تقبل إلا الرأى الواحد الذى يبرر فساد الشركات والبنوك ويغطى على طمع وأنانية الأغنياء. لقد أصبحت أبواقها الانتهازية ضد اليسار ورجالاته ومؤسساته، بل وضد كل ما هو إنسانى فى اليمين، بل وتجرأت على التاريخ وأوصلته إلى نهايته، وعلى الحضارات غير الغربية فدعت إلى إنهاء وجودها.
مرة أخرى، نحن أمام ثنائية التناقض بين الموقف مما يرفض والموقف مما يطلب. إنه تناقض الكذب والتلفيق مع حقائق الحياة، فأن يملك واحد فى المائة من أغنياء العالم نصف ثروة العالم فهو مقبول، وأن يعيش الباقون فى فقر مدقع يزداد سوءا وفجيعة فهو مقبول أيضا، إذ يمكن تعايش النقيضين فى أيديولوجية النيولبرالية الزاحفة بثقة وجبروت.
سمة العصر ليس أنه عصر المعلومات، كما يدعى البعض، إنها سمة التناقضات التى يراد لها أن تكون مقبولة من الناس، بلا مراجعة ولا مقاومة.