غرفة للاختباء والمقاومة أيضا
سيد محمود
آخر تحديث:
الأربعاء 27 مارس 2019 - 2:20 ص
بتوقيت القاهرة
أنهيت كتاب «غرفة 304» (كيف اختبأت من أبى العزيز 35 عاما) الصادر عن دار الشروق للكاتب عمرو عزت وداخلى شعور بالفرح وأمنية بالتواصل مع هذا الأب الفريد من نوعه لأن تجاربه مع ابنه أنتجت هذا الكتاب العذب الذى يصعب تفادى ما فيه من جمال وشجن وقدرة مذهلة على تناول موضوع معقد مثل بنية السلطة الأبوية والأجمل أن يأتى بهذه البساطة التى تستند على وضوح رؤية وبصيرة وإدراك لقيمة مفتقدة بين الكتاب وهى التواضع.
وما أقصده هنا أن الكاتب الحريف لم ينشغل بتصنيف محتوى كتابه ولم يرتبك أمام موضوعه، فقد أدخلته يد الله فى التجربة وليس لديه سوى النية فى سرد الحكاية، عند مستواها الاجتماعى المعتاد داخل كل أسرة مصرية فيما بين الأبناء والآباء من مناورات اختزلها الكاتب فى عبارة جميلة (الأصدقاء آباء جدد والآباء أصدقاء قدامى)، إلا أن الأب الذى نلتقى به لم يكن من النوع النمطى رغم أنه يبدو كذلك، هو مهندس تعلم فى السبعينيات وتزوج من سيدة كانت تفخر بأنها أول من ارتدت الجينز فى منطقة أرض الجمعية فى حى إمبابة لكنها صارت الآن تخفى صورها التى أخذت لها وهى بدون حجاب، أما الابن فهو من النوع (المناكف) الذى دخل منذ صغره (فتنة السؤال) ولم يخرج منها إلى الآن.
لفت عمرو عزت أنظار المهتمين بالشأن العام قبل سنوات من ثورة يناير ٢٠١١ وكان بين مجموعة من المدونين تابعوا تطورات الوضع السياسى فى مصر وتجلت أفكاره فى مدونته الشهيرة «ما بدالى»، ثم عمل صحفيا احترافيا وتنقل بين عدة صحف قبل أن يستقر به المقام باحثا فى واحدة من أبرز المؤسسات الحقوقية فى مصر.
ويمكن النظر للكتاب كعينة نموذجية لجيل جديد من الكتاب غير مهتم بمسألة تصنيف ما يكتب بقدر اهتمامه بابتكار رسائل متنوعة للتعبير عما يحمل من أفكار ومهما كانت درجات التناقض فإنه يسعى لتسويتها والتعايش معها بالكتابة وممارسات حياتية أخرى، أكثر من سعيه لحلها، فالتحولات هى علامة على الاختلاف والتمايز عن الأجيال التى تبنت أيديولوجيات مغلقة واعتزت بانسدادها وانعدام مرونتها.
وانطلاقا من هذا الإيمان بالمرونة ومواجهة البنى المغلقة يختلف الكتاب فى بنيته عن الأنواع الشائعة التى تقبل «التستيف» التقليدى وهو ليس قصة أو رواية، ولعله أقرب لسيرة ذاتية غير تقليدية، لا تعتمد على مسار خطى يمكن تتبعه عبر رصد تصاعدى لتطور الشخصية الرئيسية أو نمو الأحداث، فقد لجأ الكاتب فى تركيب حياته لتقنية التجاور التى تجمع بين شذرات مختلفة مارس فيها غواية التلاعب بأزمنة متشظية وكأنه يركب لوحة من لعبة (البازل) إذ إن الأحداث لا تأتى متتابعة وإنما تنتهى فى تركيبها المتناغم رغم القفزات لتكوين ضفيرة سردية بخيوط من أزمنة متداخلة تلتف حول عمود ارتكاز رئيسى يمثل الخلية النواة التى تتناسل حولها سيرة الأب مع تحولات ولده التى لا يمكن تناولها بمعزل عن تحولات مجتمع بأكمله تتجلى فيه عقدة السعى نحو تفكيك هذه السلطة الأبوية فى مستوياتها المختلفة ومناهضة ما يسميه عمرو عزت (الإشهاد الأبوى) وتقصى حالات الصراع معه منذ أن تجلى فى عبارة عفوية تتكرر على لسان كل أب يبدأ رحلة الخلاف مع ابنه وهو يقول: (أنا اللى جبتك) وصولا لخطبة مبارك الشهيرة قبل التنحى خلال أيام ثورة يناير التى تعكس فى واحد من تجلياتها نمطا من أنماط مواجهة هذا الإشهاد، فالرغبة الأبوية ترى فى نفسها منطقا مستقلا بذاته، لا يحتاج للتبرير، وتمضى علاقة الأبوة والبنوة كلها وإلى الأبد مستندة عليه.
وما سعى إليه الابن فى الكتاب هو الاختباء من هذا المنطق تفاديا للمواجهة وداخل الغرف التى تحولت من الواقع إلى المجاز وكانت صالحة للاختباء من الأب أنتج عمرو عزت مئات الصور التى تم تصديرها لرب العائلة، وكأن الغرفة 304 تعيد إنتاج ما فعلته فرجينيا وولف فى غرفتها التى كانت تخص المرء وحده ومن داخلها استطاعت أيضا مواجهة العالم ونقد النظام الأبوى وربما إسقاطه.