إشكالية المثل القدوة فى بلاد العرب
علي محمد فخرو
آخر تحديث:
الأربعاء 27 أبريل 2022 - 8:55 م
بتوقيت القاهرة
فى الماضى السحيق كانت الأجيال الجديدة من البشر العاديين تقبل بأن تكون مصادر فهمها وحكمها على معنى والتزامات الحياة المحيطة بها نابعة، باقتناع واحترام وثقة مطلقة، من وسط رجال الدين. ما يقوله قادة الدين، من علماء وفقهاء ومدعين ومسئولين، عما هو مقبول أو غير مقبول فى حياة الإنسان الشخصية أو الجمعية، اعتبرته تلك الأجيال سليما وملزما وأقرب إلى تحقيق سلامة العيش ورغده.
فى تاريخنا العربى تمثلت تلك الظاهرة فى المكانة القائدة المؤثرة الموثوق بصدقها لكبار شخصيات الفقهاء، على سبيل المثال، مالك وأبى حنيفة والشافعى وابن حنبل وجعفر الصادق.
وبعد إزاحة الدين من مكانة الصدارة فى الحياة الحديثة من قبل الحضارة الغربية، وصعود مكانة الفلسفة والأيديولوجيات وعلوم الاجتماع، حل مكان القادة الدينيين الأقدمين الفلاسفة والمفكرون الأيديولوجيون والعلماء المخترعون، من أمثال روسو وتولستوى وكارل ماكس وأينشتاين وفرويد واللورد راسل وجان بول سارتر وغيثارا وغرامشى. وفى بلاد العرب حل أمثال محمد عبده وطه حسين ومحمد عابد الجابرى وميشيل عفلق وحسن البنا وجبران خليل جبران وكثير غيرهم. وبالطبع لا يتسع المجال لذكر المئات الآخرين على مستوى الوطن العربى وخارجه.
المهم أن التاريخ يعلمنا بأنه لا تخلوا عوالم أى جيل من أسماء أشخاص اعتبرتهم تلك الأجيال مصادر إشعاع فكرى أو نضالى سياسى جديرة بالاحترام والاقتداء بأفكارها وأفعالها واكتشافاتها.
ومع أن بعض أولئك الأشخاص القدوة انتهوا أحيانا بارتكاب الأخطاء الفادحة وأحيانا أخرى بالوصولية وخيانة الأمانة الفكرية والنضالية، ومثلوا بالتالى أحد مصادر فواجع ويأس أتباعهم ومريديهم، إلا أن ظاهرة وجود المثل القدوة أو الإشعاع الإبداعى المتميز ستبقى متواجدة فى حياة المجتمعات البشرية إلى الأبد. إنها ظاهرة لها أسبابها النفسية والعاطفية والذهنية والاجتماعية الملازمة للإنسان.
من هنا أهمية طرح السؤال التالى: ما أنواع وصفات الأمثال القدوة فى حياة الجيل الشاب العربى الحالى؟ هل هم قادة الفكر والأيديولوجيا والاكتشافات والنضال السياسى المضحى المتميز أم أنهم من قادة وتميزات نشاطات وعوالم أخرى؟ وهل لهذا التبدل فى الأمثال القدوة نتائج سلبية، بل وكارثية؟
الجوانب يكمن فى ما طرحته التغيرات العربية والعولمية الهائلة التى رانت على حياة البشر فى الآونة الأخيرة.
أولا: الثقافة العولمية التى يكونها وينشرها نظام إعلامى وفنى هائل يركز على خلق ونشر وتشجيع التفاهات وذلك من خلال تمجيد أفكار وأخلاق وسلوكيات المجتمع الاستهلاكى والانغلاق على الذات الفردية الأنانية المنشغلة دوما بعالم الإثارة الغريزية فى كل أشكالها وبأى ثمن كان. وأمام هذا الفرد ألوف كتب وأفلام وأغانى التنمية الفردية التى تشير إلى ألوف طرق الوصول إلى تلك الذات المريضة.
ثانيا: إضافة إلى تلك الموجة المكتسحة من الثقافة العولمية تتميز غالبية الحياة الجمعية العربية بتجذر ثقافة دينية سطحية مظهرية، تحارب كل تجديد فكرى دينى ضرورى، وترفض أى خروج من دائرة التجمد الفقهى الاجتهادى السلفى. كما تتميز بثقافة إعلامية قبلية تعادى كل ما هو ديمقراطى تجديدى فى السياسة وتنشر كل ما هو سطحى وغوغائى فى عوالم الفنون والرياضة والأنشطة الاجتماعية.
ثالثا: انزواء الكثيرين من المثقفين العرب عن الانخراط فى الحياة السياسية النضالية الجادة، والاكتفاء فى أفضل الأحوال بممارستها بكثير من الحيطة فى القول والكتابة والممارسة اليومية. لقد ذهبت تلك الفترة التى كان المثقفون فى طليعة المتظاهرين وفى قلب صخب الخطابات الجماهيرية ومن أوائل الموقوفين والمسجونين.
بالطبع، ما كان ذلك ليحدث لولا القبضة الأمنية الحديدية والمحاربة الظالمة فى الرزق والابعاد المتعمد عن كل منابر التعبير فى الحياة المجتمعية الوطنية أو القومية.
والنتيجة هى اختفاء أشخاص القدوة من المفكرين والمثقفين الملتزمين والمناضلين بشجاعة وبطولة، ليحل محلهم أبطال الرياضة والرقص المبتذل والأغنية البليدة المائعة والخارجين على الأعراف الاجتماعية الأخلاقية المتزنة والمهرجين الشعبويين فى أمور الدين والسياسة المبتذلة المجنونة.
غياب الشخصيات القدوة، المعنيين بالتغييرات والتجديدات الكبرى، الملهمين والمحركين لعقول وأرواح الأجيال الجديدة، وليس غرائزهم ورغباتهم التافهة.. هذا الغياب يمثل كارثة تضاف إلى كوارث هذا الوطن العربى المنهك.