مصداقية مسار الخروج من الأزمة

سمير العيطة
سمير العيطة

آخر تحديث: الأحد 27 أبريل 2025 - 8:20 م بتوقيت القاهرة

الشعب السورى محكوم بالأمل. أن معاناته المعيشية، والعقوبات التى فرضت عليه منذ أربعة عشر عاما، وصراعات الآخرين على بلاده وشرذمتها، والانفلات الأمنى، وكبح الحريات العامة والخاصة، والنزوح والتهجير... أمور ستعرف نهايتها جميعها قريبا وإن تدريجيا. والأمل كبير، بل كبير جدا، قياسا بالمعاناة التى عاشها طويلا.
لا يجوز التلاعب بهذا الأمل. إذ إن المصداقية أساس فى الخطاب العام والإعلامى تجاه المجتمع. بحيث قد تكون ضخامة الإحباط وفقدان الثقة على قدر ما يتم بثه من أخبار غير دقيقة أو مجرد أوهام أو مشاريع غير قابلة للتحقيق على المدى المنظور. ولا معنى اليوم لرمى أسباب استمرار المعاناة كلها فى المجمل على الخارج وعقوباته، كما كان الأمر فى العهد البائد.. والأسوأ هو أن يقتصر التركيز فقط على مساوئ ذلك العهد دون التعرض حقا لتحديات اليوم بصدق وشفافية... ودون أى نقد لبعض التوجهات والممارسات الجارية بغية تجنب تداعياتها.
بالتأكيد، لا يمكن الانتقاص من الجهود الكبيرة المبذولة تجاه تركة سنين الصراع. وبالطبع التأكيد أيضا أنه لا يمكن الفكاك من أن الأمور تحتاج إلى وقت كى تصل هذه الجهود إلى نتائجها. لكن من الواجب بنفس القدر أيضا توضيح أن بعض السياسات قد تأخذ إلى استمرار المعاناة وأن بعض الخطابات الإعلامية حول ما يجرى تبعث آمالا ليست فى مكانها.
• • •
إن الولايات المتحدة منحت، منذ ديسمبر الماضى، إعفاء عن عقوباتها، التى تشكل الأساس فى تحديد موقف أى دولة أو شركة تريد المساعدة أو العمل فى سوريا... فقط فيما يخص الطاقة والكهرباء. وعمت الأنباء فى محطات الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعى، أن سفن نفط عملاقة لرفد محطات الكهرباء ومحطات عائمة فى طريقها إلى الساحل السورى. لكن الكهرباء لم تأت من البحر المتوسط. وفى المحصلة جاءت بعض الكهرياء من الأردن بعد فترة، ثم زادت كمياتها بعد شهرين مع منحة غاز قطرية مؤقتة تم ضخها فى ميناء العقبة. كما زادت قليلا كميات الكهرباء المستوردة من تركيا، التى كانت أصلا تغذى مناطق إدلب وإعزاز وعفرين منذ زمن طويل. كذلك عمدت سوريا بأموالها الضئيلة إلى شراء سفينتى فيول لرفد محطاتها.
هكذا حل تحسن التغذية بالكهرباء طفيفا بعد أربعة أشهر دون أن يوضح المسئولون عن القطاع بشفافية الإشكاليات التقنية والإدارية التى أعاقت وتعيق تحسنا أكبر. هناك بالتأكيد إشكالية المحدودية الزمنية (ستة أشهر) للإعفاء الأمريكى، ولكن أيضا إشكاليات فى زيادة إنتاج الغاز السورى، وإصلاح محطات الطاقة والتحويل وخطوط النقل. يضاف لذلك الشرذمة الإدارية والمالية بين شركة الكهرباء العامة وشركات الكهرباء الخاصة العاملة فى شمال غرب سوريا.
إن مؤسسات الأمم المتحدة قامت، حتى خلال الصراع، ببعض الإصلاحات فى هذا القطاع. وهى تعرض مساهمتها مستقبلا فى إصلاحات أخرى، رغم أنها تفتقر أصلا للموارد. إذ أن قرار إدارة الرئيس ترامب بوقف المعونات الخارجية يدفع معظم أجهزة الأمم المتحدة إلى فصل موظفيها. كما انخرط البنك الدولى مؤخرا لمساعدة هذا القطاع، مساعدة ليست فقط مالية، بل أيضا لوضع أسس لحل إشكاليات القطاع والتوافق مع الحكومة حول حل الإشكاليات التقنية والإدارية، وحول الأولويات. إذ إن لا معنى لزيادة الإنتاج عندما يتم هدر أكثر من 50% من إنتاج الكهرباء فى الشبكة. كما ينبغى أن يساهم تحسن توفر الكهرباء فى إعادة النازحين واللاجئين إلى مدنهم وقراهم.
• • •
من ناحية أخرى، من اللافت أنه رغم النوايا الطيبة والكفاءات، لم تبرز خطابات أعضاء حكومتى «تيسير الأعمال» و«الانتقال»، إشكاليات العمل والبطالة فى سوريا ولا إشكاليات الحماية الاجتماعية.
إن هذه الخطابات وأصداؤها الإعلامية تركز على الانتقال إلى الاقتصاد الحر وفتح باب الاستثمارات بشكل واسع، بينما تخلق وهما أن اقتصاد السلطة البائدة كان... اشتراكيا. فماذا كان حقا اشتراكيا فى هيمنة رامى مخلوف أو أسماء الأخرس الأسد ورجال أعمالهما على الاقتصاد؟ هيمنة كانت أصلا أحد أسباب الانتفاضة الشعبية فى 2011.
لا يمكن فى الواقع خلق فرص عمل فى سوريا مع فتح باب الاستيراد على مصراعيه، فى بلد لن يتمكن من زيادة صادراته إلا بعد زمن طويل. والعبرة ليست من سوريا بل من سياسات الرئيس ترامب الحالية التى ترمى إلى تخفيض الدين الخارجى وزيادة العمالة فى الولايات المتحدة. ولا يمكن أيضا خلق فرص عمل فقط عبر التقانات الحديثة، رغم أهمية نشرها. إذ أن هدف هذه التقانات هو توفير العمالة، خاصة عندما يتم الحديث عن الذكاء الاصطناعى الذى بات يقلص فرص العمل حتى فى مجال إنتاج البرمجيات.
لقد أثبت الشعب السورى، فى سوريا وفى بلدان اللجوء والهجرة، أنه شعب نشيط، يعرف أن العمل لكسب الرزق... كرامة. والأولوية هى إطلاق إمكانياته عبر توفير البنى التحتية ووسائل التمويل، مصارف عادية كانت أم إسلامية، بتمويل أصغر أم أكبر، وعبر حمايته من الاحتكارات وحمايته اجتماعيا.
هكذا يأتى دور الدولة كمنظم للاقتصاد «الحر» أساسا للحماية من الاحتكارات، الداخلية منها كما الخارجية، رجال أعمال السلطة البائدة أم رجال أعمال جدد، لتأمين صدقية «المنافسة الحرة» وتنشيط فرص العمل. والعبرة هنا فى لبنان وغيرها من البلدان العربية التى أفسدت فيها الاحتكارات كل الجهود أمام نهوض حقيقى لاقتصاداتها. فهل يعاد إعمار حمص كما كان مشروع المحافظ السابق إياد غزال، التى قامت دنيا حمص عليه؟
• • •
كما يكمن دور الدولة أيضا وأساسا فى الحماية الاجتماعية، خاصة فى مجالات الصحة والتعليم والخدمات الأساسية. فلا معنى لتحرير قطاع الصحة مثلا دون إنشاء نظام تأمين صحى عمومى. ولا معنى لتوكيل «المنظمات غير الحكومية» بالحماية الاجتماعية، مهما كان دورها سابقا فى الإغاثة أثناء الصراع، خاصة أن تمويلها اليوم خارجى يخضع لأولويات ليست للدولة والمجتمع. صندوق النقد والبنك الدوليان خرجا أصلا ومنذ زمن طويل مما كان يسمى «توافق واشنطن» الذى كان يوصى بتقليص الإنفاق على الصحة والتعليم، وما زال هناك من ينادى بذلك اليوم فى سوريا.
من ناحية أخرى، تيم التهليل إعلاميا بسياسات تحرير التعامل بالنقد الأجنبى فى سوريا، بعد أن كان محظورا سابقا. ولكن السؤال يبقى عما إذا كان هذا التحرير وانفلات الصرافين غير النظاميين مع كبح السيولة بالليرة السورية وفروقات أسعار الصرف بين الرسمية والحرة قد أديا فى النهاية إلى سحب مبالغ كبيرة من العملة الصعبة من أيدى من احتفظ بها ليوم أسود أو وصلته كمساعدة من مغتربيه؟ هذا فى وقت تحتاج فيه سوريا كدولة لهذه العملة الصعبة لتأمين الحد الأدنى من الواردات.
وما القول أيضا بالتهليل حول خفض أوروبا للعقوبات عن سوريا فى حين لم يتم رفع العقوبات إلا عن المصارف الحكومية التى لا تتعامل مع الخارج، الزراعى أو الصناعى، وليس التجارى أو المركزى. دون أن تتم أصلا الإشارة إلى الأموال الحكومية السورية المحجوزة فى أوروبا بفعل العقوبات.
• • •
الآمال كبيرة والتحديات كبيرة أيضا، ومهمات الإصلاح للخروج من آثار الصراع صعبة ومعقدة، فى هذه المجالات وغيرها. لكن حلها لا يكمن بالتهليل والتضليل الإعلامى وإنما بالشفافية وبترسيخ المصداقية أمام المجتمع. إن الشعب كان، وسيبقى، أساس الحكم.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved