بعض من الجنون
خولة مطر
آخر تحديث:
الأحد 27 يونيو 2021 - 8:00 م
بتوقيت القاهرة
لكل المدن مجانينها كما لها مقابرها وحاناتها ومقاهيها الشعبية وحاراتها وأزقتها وحتى بيوت قد تحمل تسميات خاصة ولكنها بالمجمل هى تقدم خدمات متشابهة وتبقى مختفية فى سردهم الجمعى فى محاولة للتعفف والبعد عنها!!! ولكن يبقى المجانين كما يسميهم العامة من الناس هم الأكثر بروزا وحضورا ضمن السرد الشعبى أو المحكى للناس فى تلك المدن.
***
يبدو الحديث عن الجنون والمجانين أكثر حاجة اليوم من أى وقت آخر والزمن توقف وتحول الجمع إلى الصمت أو العقل الجمعى الخائف والمتوجس كثيرا والرافض لأى تمرد على السائد والقابل بالذل بأشكاله والتسميات الحداثية له.. وتزداد الحاجة لنبش المكنون وإعادة الاعتبار للجنون حتى لا تحولنا الجائحة إلى قطيع يحمل صفة بشر وتجردنا من كل متع الحياة لشدة خوفنا من الموت.
***
المجانين فى تاريخنا متنوعون وليسوا بشكل وتفاصيل واحدة.. منهم الصامت الذى لا يملك سوى أن يراقب الآخرين بشىء من السخرية وأحيانا ربما الخوف.. وآخرون كثيرو الكلام والسؤال والتدخل والاستفسار أو الطلبات. هم ليسوا كما صورتهم السينما العربية أحيانا دراويش ــ حكماء فى نفس الوقت، يرددون نفس العبارة وهى فى مجملها معبرة عن ظلم وقع عليهم والظلم هو ما يوحدهم على اختلاف مدنهم وتنوعات مظاهرهم ألا يكفى أن يوصفوا بالجنون فيما قد يبدو الوصف الأدق لكثيرين منهم هو أنهم مختلفون.
***
كثيرون منا بقيت فى ذاكرتهم صور
لـ«مجانين» مدينتهم حتى إذا لم يروهم أو كانوا يخافونهم فالسرد العام ظالم بحق كل مختلف عن الكل حيث يرتبط وصف مجنون بالعنف أو التعدى أو الصريخ أو الكلام الخارج عن الأدب.. إلخ. ففى الذاكرة الجمعية، على سبيل المثال، لمدينة المحرق العريقة أسماء لشخصيات حفرت فى تفاصيل تاريخ تلك المدينة ومنهم كثيرون حملوا وصف الجنون بعضهم من النساء وكثيرون من الرجال. ولكن حتى فى الجنون تبقى الفروق تميز بين الرجال حاملى الصفة والنساء منهم واللاتى فى الكثير من الأحيان يتم عزلهن فى إحدى غرف المنزل وتحويلهن عبر المعاملة اللا آدمية إلى مسخ بشر فقط حتى تحرم المرأة من الميراث أو حقها فى الارتباط بمن تسلل إلى قلبها رغم كل الحواجز والقيود.
***
هكذا عرف المجتمع معنى الجنون لصغاره حتى عندما كبروا فانفتحت شبابيك الكون بأدبه وثقافاته عليهم، عادوا ليراجعوا كثيرا مما رسخته الذاكرة الجماعية ومنها مفهوم الجنون وتعريفه.. هنا عادوا وعدنا لتعريف جديد للجنون بعيد عن ذاك الذى تربينا عليه. وربما فى شكل من أشكال رد الاعتبار لمفهوم الجنون راح البعض يكرر «ما أحلى الجنون» وقال آخرون فى الجنون صحة وركض الحالمون ليصفوا الجنون بكل ما تيسر من معانى الحرية والانعتاق من النمط السائد أو العام.
***
وفى رد الاعتبار للجنون كان من المهم أن لا ننسى أن التراث العربى والشعرى ملىء بوصف العشاق بالجنون. فكل من غرق فى الحب والوله والغرام والعشق هو مجنون معشوقته فكان «مجنون ليلى» قيس بن الملوح و«مجنون بثينه» جميل بن عبدالله بن معمر والذى لا يعرفه البعض إلا بـ جميل بثينه... وآخرون وهم كُثر!!!
***
وقد استرسل كثيرون فى فهم الجنون وتفسير مفهومه لدى العرب ومنهم أبو القاسم النيسابورى فى كتابه الشهير «عقلاء المجانين» والذى بحث عن أصل الجنون فى اللغة العربية وتوصل إلى أن جن الشىء هو استتر بمعنى أن المجنون هو المستور العقل. ولكن النيسابورى يخوض فى تفاصيل أوسع حول مفهوم الجنون وتعريف المجانين فى كتابه هذا. وفيما كان للجنون مفهوم قريب من الرومانسية أحيانا فى التراث العربى، تحول أو حوله البعض إلى شىء من الوصف السلبى لكل من يختلف عن الجمع سواء كان هذا الجمع هو العشيرة، أو القبيلة أو العائلة أو الشعب بعامته. ألم يصف كثيرون عشاق الحرية والعدالة بالمجانين، هذا إن لم يتطور الوصف ويصبحوا «خونة» للوطن أو العشيرة أو الأمة.. حتى أصبح أكثر عقلاء هذه الأمة هم مجانينها.. فعليكم بالجنون لأن قليلا منه ينعش القلب وكثيرا منه يبقى على البهجة المتسربة من شقوق جدران العقلاء.