أصداء «داعشية» للأزمة الأوكرانية
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 27 يونيو 2022 - 8:15 م
بتوقيت القاهرة
لا تتوانى التنظيمات الإرهابية والحركات المتطرفة، عن الاستثمار فى المآسى والكوارث التى تجتاح المجتمع الدولى. فعقب تفشى وباء كورونا، أصدر تنظيم «داعش» بيانا، زعم فيه أن الجائحة سوف تستنزف موارد من نعتهم «الأعداء». حيث ستضطر الدول والحكومات إلى تحويل جل إنفاقها صوب الرعاية الصحية والتصدى لتداعيات الجائحة، بما يقتطع من حصة الميزانيات التى كانت موجهة للمجالات الأمنية، خصوصا مكافحة الإرهاب. الأمر الذى يعتبره التنظيم المتطرف فرصة ذهبية لاستنفار عناصره، واستنهاض عافيته، وتوسيع نشاطاته. وفى منتصف أبريل الماضى، أطلق «داعش» ما أسماه «حملة مباركة للانتقام»، ردا على مقتل زعيمه الملقب «أبو إبراهيم القرشى»، إثر غارة عسكرية أمريكية بسوريا، فى فبراير الفائت.
وبمجرد اندلاع الغزو الروسى لأوكرانيا فى الرابع والعشرين من الشهر ذاته، أعلن التنظيم الراديكالى، أنه سيستغل تشتت الغرب حيال التعاطى مع تلك الأزمة، وانشغاله بالتخطيط لاستنزاف روسيا وتقويض تطلعاتها الاستراتيجية، لاستثمار الثغرات التى تخلفها الحرب، وما تستتبعه من تداعيات. بموازاة ذلك، دعا التنظيم التكفيرى، مقاتليه وأنصاره، إلى تعظيم الاستفادة من الفرص التى تتيحها تلك الحرب الهجين والممتدة، لمعاودة شن الهجمات، واستئناف تنفيذ العمليات. وفى تسجيل صوتى، حرَض المتحدث باسم التنظيم، كوادره ومريديه، على انتهاز الفرصة التاريخية، لاستهداف دول القارة العجوز بأنشطته وعملياته، التى ينعتها بـ«الجهادية». لاسيما بعد أن تسببت الأزمة الأوكرانية فى وضع الشعوب والحكومات الأوروبية فوق صفيح ساخن.
عسكريا، يخطط التنظيم لاقتناص بعض المنظومات التسليحية المتطورة، التى تعكف الدول الغربية على إرسالها إلى أوكرانيا، بقصد دعم جهوزيتها لقتال الروس. وقد دعت إحدى المجلات الداعمة لتنظيم «القاعدة»، علانية، أنصاره إلى التماس السبل الكفيلة بانتزاع بعض تلك المنظومات، من أيادى الأوكرانيين وأعوانهم، توطئة لاستخدامها لاحقا ضد الأوروبيين. فى سبيل ذلك، يحاول «القاعديون» و«الدواعش»، الاستفادة من افتقاد الدول، التى تزود أوكرانيا بتلك الأسلحة، آليات التتبع والرصد الدقيقة والمستدامة لمسارات وخطوط سير تلك الأسلحة، بالقدر الذى يتيح لها التأكد من عدم وقوعها فى أيادى جهات غير مرغوبة، كالتنظيمات الإرهابية والحركات المتطرفة. وإذا صحت التقارير الروسية بشأن تداول تلك الأسلحة الغربية فى السوق السوداء الأوكرانية، حتى انتشرت بدول شرق أوروبا، فلن يستعصى على التنظيمات الإرهابية الحصول عليها.
أمنيا، لن يتورع التنظيم عن استغلال أجواء الحرب الأوكرانية بغية استقطاب وتجنيد مزيد من الكوادر والمقاتلين، سواء من بين أفراد «الفيلق الأجنبى»، الذى شكله الرئيس الأوكرانى من المتطوعين الأجانب القادمين إلى أوكرانيا، لمؤازرتها فى صد الهجوم الروسى، أو عبر استمالة عناصر أوكرانية، أثناء العمليات، أو بعد انتهاء المعارك. كذلك، قد يحاول «داعش»، استغلال الاضطرابات الأمنية، والارتباكات الاقتصادية العالمية الناجمة عن الحرب الأوكرانية، لتنفيذ المزيد من العمليات التخريبية. معتمدا فى ذلك على انتشار 12 جماعة موالية له، فى أصقاع مختلفة حول العالم، علاوة على الخلايا النائمة والذئاب المنفردة، التى ما برحت تتحايل على الحصار والقيود، لتنفيذ عملياتها المدوية. فرغم أنه لم يعد قويا، مثلما كان فى أوجه أواسط العقد المنصرم، إلا أنه لا يزال يحتفظ، فى بقاع شتى، بآلاف الأتباع من المقاتلين المدربين. بالتزامن، لا يفتأ التنظيم يراهن على اغتنام فرصة العملية العسكرية التركية الخامسة المحتملة فى الشمال السورى. إذ يرنو إلى استغلال انشغال قوات سوريا الديمقراطية، التى تتولى حراسة عشرات الآلاف من معتقليه وأسرهم، فى التصدى للغزو التركى المرتقب. بحيث يهب لتحرير أكبر عدد ممكن من أولئك «الدواعش» المعتقلين، لتعزيز صفوفه واستعادة فعاليته.
اقتصاديا، من غير المستبعد أن يلجأ «داعش» إلى تنمية وتنويع موارده الاقتصادية. فشأنه شأن سائر التنظيمات الإرهابية والمتطرفة، قد يتجه للاستثمار فى أجواء الإحباط الإقليمى والدولى، عبر استغلال أية موجات جديدة من الاضطرابات الاجتماعية الناجمة عن ارتفاع تكاليف المعيشة فى المجتمعات المتضررة بشدة من جائحة كورونا، ثم ارتدادات الحرب فى أوكرانيا. تلك التى أسفرت جميعها عن تفاقم الأعباء على كواهل شعوب بلدان ترزح فى أغلال المعاناة المزمنة، مثل لبنان، وسوريا، وتونس، وليبيا، واليمن، والعراق. فبينما غدت أوكرانيا تستأثر بنصيب الأسد من دعم المنظمات الإغاثية والإنسانية الدولية، تاركة ما يسمى «دول الأزمات» تكابد الفاقة، وعوز الغذاء، والطاقة، والدواء، يتفنن «داعش» فى اصطياد ضحاياه من مواطنى البلدان الفاشلة والأشد تأثرا بالمُلمات.
ففى تطور صادم، شكل التونسيون التكتل الأضخم بين المقاتلين الأجانب، المنضوين تحت لواء «داعش». وقد ذكرت مجموعة «صوفان» للاستشارات الأمنية، أنه فى عام 2015، وحده، التحق بصفوف التنظيم ستة آلاف تونسى، مقارنة بقرابة 2500 من روسيا، و2400 من السعودية، و 1700 فرنسى، و 760 ألمانيا. وتبيانا لدوافع هكذا توجه، أرجع تقرير للمركز الدولى لدراسة التطرف العنيف، استند إلى مقابلات أجريت مع «دواعش» سابقين، إقبال الكثير من الشباب التونسى على الارتماء فى أحضان التنظيم الإرهابى، إلى اعتبارات اقتصادية بحتة. ففى حين ضاقت الدنيا بما رحبت على زرافات منهم، حتى استعصى عليهم العمل والزواج، أو حتى مغادرة منزل الأسرة، كان «داعش» يٌمنيهم بوظائف تمنح رواتب بالدولار، وسكنا مجانيا، وزوجات، وملك يمين، أثناء «الجهاد». ويعدهم بالجنة، والحور العين، عقب «الشهادة».
مثلما كان متوقعا، أعاد «داعش» إنتاج السيناريو، الذى باشره وهو فى ذروة قوته عام 2014، لجهة الاستثمار فى الأوضاع الاقتصادية المذرية بدول الشرق الأوسط. ففى لبنان، الذى يئن تحت وطأة أزماته الاقتصادية الطاحنة، وبعدما وردت أنباء تفيد «باختفاء» أكثر من 40 شابا من مدينة طرابلس، فى وقت سابق من العام الجارى. تسنى لأهليهم التعرف على أماكن وجودهم لاحقا، بعدما قتل البعض منهم فى معسكرات تدريب تابعة للتنظيم الإرهابى، بصحارى العراق. وأكد مسئولون لبنانيون وعراقيون للصحفيين، أن«داعش» استدرجهم إلى جحيمه، بعدما أغراهم براتب شهرى قدره 500 دولار للفرد. وبدرجة ما، تكرر ذات السيناريو فى أفغانستان. حيث ذكرت تقارير أن ما يُعرف بـ «تنظيم ولاية داعش ــ خراسان»، المعادى لحركة طالبان، قد عرض على المواطنين الأفغان الفقراء والعاطلين عن العمل بالمناطق الحدودية، ما بين 270 دولارا و 450 دولارا، راتبا شهريا، مقابل الانخراط فى القتال تحت رايته.
من وحى تلك المآسى، حذر خبراء مما وصفوه بـ«السيناريو الأسوأ»، المتمثل فى أن يتمكن «داعش» من الاستثمار فى التحديات الاقتصادية العالمية المتنامية، من قبيل: البطالة، وارتفاع الأسعار، والتضخم، وارتباك أمنى الغذاء والطاقة، إلى جانب الاضطرابات السياسية، والجوائح الوبائية. والتى تؤدى جميعها إلى الشعور باليأس، والغضب، والإحباط، والنزوع إلى العزلة، والارتكان للعدوانية. بغية تجنيد المزيد من المقاتلين، واجتذاب العديد من المناصرين، والأتباع، والمتعاطفين، ضمن سياق خيار قابل للحياة. وخلال مشاركته فى الاجتماع الوزارى للتحالف الدولى من أجل مكافحة «داعش» فى مراكش خلال مايو الماضى، حذر الأمين العام للجامعة العربية، أحمد أبو الغيط، من استغلال التنظيمات المتطرفة، لاسيما «داعش»، انعكاسات جائحة كورونا، ثم الحرب فى أوكرانيا، علاوة على ارتدادات ظاهرة التغير المناخى.
برغم ما ذكر آنفا، تلوح فى الأفق حزمة من العقبات أمام المخطط الداعشى لاستثمار الحرب فى أوكرانيا، على الوجه الأمثل، الذى ألفه التنظيم فيما ولى من أزمات إقليمية أو كوارث كونية. فعلى أثر الضربات الموجعة، التى تلقاها تباعا فى غير موضع، خلال السنوات القليلة الماضية، أمسى «داعش» أوهن بكثير مما كان عليه قبل ثمانى سنوات. ونتيجة لما بات يعانيه التنظيم من شح لافت فى موارده المالية، تآكلت قدرته على تقديم الإغراءات المادية، لاستقطاب المزيد من المتطوعين وتجنيد المقاتلين الجدد. وبناء عليه، أخذت أعداد مسلحيه ومريديه فى الانحسار، بعدما تهاوت «خلافته المزعومة»، التى طالما شكلت مصدر جذب لموتورين كثر حول العالم. إذ نجحت فى استمالة أفواج من أبناء الجاليات المسلمة لدى بلاد العجم، إلى كنف التنظيم. مستغلة ما يتعرضون له من إقصاء، وغبن، وتهميش. علاوة على تنمر وتربص ذوى النزعات القومية المتطرفة، الذين بدأ نفوذهم وسلوكهم العدوانى فى التعاظم التدريجى خلال الآونة الأخيرة، على وقع الصعود السياسى المقلق للتيارات اليمينية المتطرفة، بنسب متفاوتة، فى عدد من الديمقراطيات الغربية.