منعطف جديد للاقتصاد العالمى.. نهاية عصر البترودولار
أيمن النحراوى
آخر تحديث:
الخميس 27 يونيو 2024 - 6:35 م
بتوقيت القاهرة
انقضت الحرب العالمية الثانية والاقتصاد الأمريكى فى حوزته فعليا ثلثا الذهب فى العالم، ثم أمنت اتفاقية بريتون وودز للولايات المتحدة أن يكون الدولار هو محور نظام النقد الدولى وآلياته واعتباره عملة المعاملات والسيولة الدولية. وصف أحد الاقتصاديين الأمريكيين ذلك بقوله: من دواعى السرور أن يكون لدى الولايات المتحدة فى فنائها الخلفى مطبعة للعملة الورقية، فمعيار الذهب التبادلى بالدولار قد منحنا هذا الامتياز.
لقد أتاح نظام النقد الدولى واتفاقية بريتون وودز للولايات المتحدة أن تتوسع فى إصدار الدولار وأن تفعل ذلك باطمئنان لتمويل عجز ميزان مدفوعاتها باعتبار الدولار هو عملة السيولة الدولية، وباعتبار أن دول العالم تقبل الدولار كغطاء نقدى اعتمادا على قابليته للتحويل إلى ذهب، ومن ثم توسعت فى إصدار الدولار، دون ثمن حقيقى يتكبده الاقتصاد الأمريكى.
ولما تكشفت الحقيقة الصادمة من أن الأرصدة الدولارية لدى دول العالم تقدر بحوالى 35 بليون دولار، فى حين كانت الأرصدة الذهبية الأمريكية لا تزيد على 11 بليون دولار، انتهى الأمر بإعلان الرئيس نيكسون رسميا فى 15 أغسطس 1971 إيقاف الولايات المتحدة تحويل الدولار إلى الذهب.
بعد حرب أكتوبر 1973 التى حققت على أثرها الدول المصدرة للنفط إيرادات نفطية هائلة، قام هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأمريكى بترتيب اتفاق تاريخى مع السعودية فى يونيو 1974 لاتخاذ الدولار كعملة التسعير الوحيدة لصادرات النفط السعودية، وكذلك استثمار الفوائض النفطية فى سندات الخزانة الأمريكية، وتدوير تلك الفوائض فى الاقتصاد الأمريكى والاقتصادات الغربية، ولم تلبث بقية الدول الخليجية أن حذت حذوها.
وبالإضافة إلى ما سبق، فقد أدى استمرار تدفق العائدات النفطية للاستثمار فى سندات الخزانة الأمريكية إلى ازدهار سوق السندات الأمريكية، فى ظل ضمان وجود مشترٍ ثابت للسندات الأمريكية، والنتيجة الأخرى كانت دعم أسعار الفائدة المنخفضة داخل الولايات المتحدة الأمر الذى عزز الاستثمارات والنمو الاقتصادى الأمريكى لسنوات طويلة.
وبحلول عام 1975 ربطت كل دول الأوبك صادراتها النفطية بالدولار، فعزز ذلك من مكانته على الساحة العالمية كعملة للسيولة الدولية وتصاعد الطلب العالمى على الدولار ليشتد ارتباط الاقتصاد العالمى بالدولار، الذى بات عملة تحديد الأسعار والمعاملات الدولية، كما باتت فوائض الدولار هى المصدر الفعال للتمويل والاستثمار فى الاقتصاد العالمى.
ومن خلال قيام الدول المصدرة للنفط ببيع النفط بالدولار الأمريكى واستخدامه كعملة دولية للسيولة والتقييم والمعاملات، انتهى الأمر آنذاك إلى تعزيز مكانة الدولار كأقوى عملة فى العالم، باعتباره العملة الاحتياطية الدولية، وساعد تزايد الطلب العالمى على الدولار لشراء النفط فى الحفاظ على قوته فى مواجهة كافة العملات الأخرى.
وإلى اليوم تتحدد السياسات النقدية للدول تأثرا بالسياسات النقدية لبنك الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى، مع اعتماد نظام النقد الدولى بدرجة كبيرة على الدولار باعتباره عملة الاحتياط والسيولة الدولية، وأمكن بذلك للولايات المتحدة أن تطبع ما تشاء من الدولار وتحصل على ما تشاء من السلع والخدمات مقابله ودون حدود، فتشترى من دول العالم كل احتياجاتها من كل شىء مقابل أوراق نقدية تصدرها دون أن تكلفها سوى قيمة طباعتها.
• • •
فى الوقت الراهن، انقضت - هذا الشهر - خمسون سنة على تاريخ إبرام تلك الاتفاقية، التى مثلت أحد الأركان الرئيسية التى قام عليها عرش الدولار الأمريكى كأقوى عملة فى التاريخ، وقد انقضت تلك الاتفاقية دون تجديد.
منذ أسبوعين تقريبا، أعلن بنك التسويات الدولية فى سويسرا أن السعودية ستنضم إلى مشروع mBridge كمشارك كامل، وهذا البنك هو مؤسسة مالية مملوكة للبنوك المركزية الأعضاء، ويقوم على منصة عملات رقمية متعددة البنوك المركزية لتمكين المدفوعات عبر الحدود.
بدأ العمل فى هذا المشروع عام 2021 من خلال التعاون بين بنك التسويات الدولية والبنك المركزى للإمارات وبنك الشعب الصينى وسلطة النقد فى هونج كونج وبنك تايلاند، وانضمت إليه لاحقا 63 دولة منها إسرائيل، بالإضافة إلى 26 دولة كمراقب.
فى سبتمبر الماضى، تم تصنيف السعودية باعتبارها الدولة التى تتمتع بأعلى حجم نمو فى معاملات العملات المشفرة فى العالم خلال عام 2023. تتزامن تلك التوجهات السعودية مع توجه الصين لتسعير معاملات النفط باليوان، وهى توجهات لو تقاطعت فقد تنتهى إلى توقيع اتفاقية تاريخية لمبادلة العملة البالغة 6.93 مليار دولار بين البنكين المركزيين السعودى والصينى.
وفى ذات الآونة تحدثت تقارير دولية أخرى عن أن انضمام السعودية إلى تجمع بريكس، سيعنى بالتبعية توجهها فى المستقبل المنظور لاستخدام العملة المستقرة العابرة للحدود الوطنية لدول البريكس فى تسوية جانب كبير من معاملاتها التجارية الدولية.
من جهة أخرى وفى ذات السياق قامت الصين بتسوية قيمة وارداتها من الغاز مع الإمارات باليوان فى مارس 2023، ولاحقا أعلن البنك المركزى الإماراتى أنه سيبدأ البحث والنقاش مع الهند فيما يتعلق باستخدام الدرهم الرقمى لتسوية المعاملات التجارية الدولية بينهما.
ولا يقتصر الأمر على السعودية والإمارات، بل يمتد إلى العديد من الدول مثل الصين وروسيا وإيران التى تسعى للتحرر من هيمنة السياسات النقدية الأمريكية القائمة على الدولار.
• • •
العالم اليوم ليس كالأمس، والسياسة النقدية الأمريكية وطباعة الدولار بلا ضوابط ولا حدود، باتت تلحق الضرر الشديد بالدول واقتصادياتها، وهو ما أدركته كافة الحكومات بلا استثناء، والآن يجرى العمل بطيئا ولكن حثيثا بواسطة العديد من الدول لنزع ذلك الطوق الحديدى للعملة الأمريكية والتحرر من سطوتها وهيمنتها.
وبقيام الولايات المتحدة وحلفائها وحتى سويسرا، بتجميد الأصول والأرصدة الروسية، ثم تهديدها المستمر بمصادرتها بذريعة تقديم التعويضات لأوكرانيا، فقد فقدت الولايات المتحدة بذلك ثقة العديد من الدول التى تحتفظ بأرصدتها وأصولها فيها، وباتت العديد من الدول فى خوف من تعرض أرصدتها وأصولها للتجميد والمصادرة حال حدوث أزمة بينها وبين الولايات المتحدة.
ومع انقضاء اتفاقية البترودولار دون تجديد، فمن المؤكد أن ذلك يعنى أن الاقتصاد العالمى سيسير فى منعطف جديد، سيتم فيه التوجه تدريجيا للاستغناء عن الدولار فى أسواق النفط والغاز العالمية، وهو توجه بدأ بالفعل من قبل من جانب عدد من كبار مصدرى النفط مثل روسيا وفنزويلا وإيران لتلافى استخدام الدولار قدر الإمكان فى معاملاتها، مع توجه مماثل من كبار المستوردين مثل الصين والهند.
والأمر لا يقتصر على النفط والغاز، فتكتل دول بريكس يتوجه لإصدار نظام نقدى خاص به، ولاعتماد منظومة عملات مشفرة أيضا كأحد مشروعاته لتسوية المعاملات بين دوله بعضها البعض وبين دول العالم.
هذه جميعًا توجهات تصب فى تعزيز مسار الاستغناء الدولى التدريجى عن الدولار وتقليل الاعتماد عليه، وتحجيم دوره الذى أتاح للولايات المتحدة أداة نقدية واقتصادية حاسمة لطالما صبت فى صالح قوتها وهيمنتها على الساحة العالمية.
أستاذ ومستشار الاقتصاد الدولى واللوجيستيات