الثقافة.. تعدد المصادر وغنى الموارد
صحافة عربية
آخر تحديث:
الثلاثاء 27 أغسطس 2024 - 6:45 م
بتوقيت القاهرة
إلى تنوع المعطيات التاريخية والأنثروبولوجية الثقافية للمجتمعات فى أنحاء العالم كافة، يعود تفسير ذلك التنوع الهائل لثقافات الشعوب الذى يسم أنظمتها الحياتية، ويعبر عن اختلاف تجاربها وخبراتها وطرائقها فى التعبير ومسالكها فى الفعل والعمل.
معنى ذلك، ابتداء، أن أظهر سمات الثقافة هو التعدد والتنوع فى التكوين والفاعلية والتعبير على الرغم من انتماء الثقافات المختلفة إلى الثقافة الإنسانية الواحدة. قد تكون الإنسانية خاصة المعاصرة موحدة، إلى حد ما، فى أنظمتها الاقتصادية والتجارية والتبادلية والقانونية، وربما بدت لكثيرين ساعية، أحيانا، إلى أن تتحد فى أنظمتها السياسية (أو قُل أن تتوافق على القيم السياسية)، لكنها أبدا ما كانت كذلك على صعيد قيمها الثقافية التى هى موطن تباين بينها.
ولعل الفواصل بين الثقافات العالمة تكون أضيق من تلك التى تنتصب بين الثقافات الشعبية لأن العقلى فيها واحد، فيما الشعورى والوجدانى والهويتى بينها مختلف، وهو الذى عليه مبنى الثقافات الشعبية.
يترتب على ذلك استنتاج مفاده بأن تعدد الثقافات الشعبية فى العالم من تعدد مصادرها التاريخية والاجتماعية والأنثروبولوجية، ويمكن أن نرد المصادر تلك إلى ثلاثة رئيسية هى أشبه ما تكون بدوائر عامة: المجتمع بخبراته التاريخية المتراكمة، والدين أو منظومة الاعتقادات والأفعال الدائرة على الإيمان بقوة عليا أو بفكرة أو بمثال، ثم الأخلاق بما هى مجموع القيم التى توجه السلوك الفردى والجماعى، والمصادر هذه، وإن اختلفت فى التكوين والكثافة والتأثير من مجتمع لآخر ومن شعب لآخر، مشتركة لدى المجتمعات والشعوب كافة، بحيث لا يعرى منها أحد.
ليس من ثقافة شعبية فى أى مجتمع، ولدى أى شعب، لا تمتح من هذه الموارد الثلاثة أو تؤلف منتوجها منها. قد يتفاوت تأثير هذا المصدر أو ذاك فى تشكيل نظام الثقافة الشعبية فى هذا المجتمع أو فى ذاك، وقد يعلو سهم واحدهما على غيره، لكنها جميعها تظل ذلك الكيان التحتى الذى يمثل مخزونه شرطا لقيام أى ثقافة شعبية ومادة خاما لها.
إننا نكتشف أثر هذا المخزون الاستراتيجى وحضوره من خلال التعبيرات الثقافية المتنوعة التى تُحيلنا، مباشرة، إليه وتطلعنا على الكيفية التى يتمظهر بها فى تلك التعبيرات: أحيانا فى صور من ذلك التمظهر مباشرة ويسيرة الإدراك، بحيث تسمح بربط المنتوج بمصدره، وأحيانا أخرى فى أشكال لا تفصح عن نفسها إلا من طريق عملية تحليل يماط به النقاب عن أثر المصدر فى المنتوج أو الأثر الثقافى.
وحين نقول، فى العادة، إن الثقافة الشعبية مرآة نرى فيها صورة مجتمع ما، فليس المفهوم من التعبير هذا سوى أن مجموع المخزون التاريخى، الثقافى والاجتماعى والدينى والجمالى والأخلاقى.. لذلك المجتمع يُطل علينا بدرجات متفاوتة من وراء ستار تلك الثقافة الشعبية، أى من خلال مجموع آثارها ومنتوجها.
إذا كان يجوز القول إن المصادر المشار إليها قبلاً مصادر تشترك فيها المجتمعات الإنسانية على تفاوت بينها فى مكانة كل مصدر منها فى النظام الاجتماعى وفى آثاره فى يوميات الناس فإن العلاقة المجتمعية بكل مصدر منها تخضع، فى كل مجتمع، لأحكام الجغرافيا الطبيعية والجغرافيا البشرية على السواء، أى ترتبط بأحكام الموطن والإقامة وما يتمتع به كل موطن من مخزون تاريخى سابق.
هكذا تتعدد وجوه التعبير الثقافى الشعبى بتعدد جغرافياته الطبيعية والبشرية التى تكمن خلفه، بما تحمله فى جوفها من مخزونات أنثروبوثقافية، ولذلك يقع التمييز فى كل مجتمع وثقافة بين ثقافة الجبل، وثقافة السهل، وثقافة الساحل، وثقافة الصحراء، وبين ثقافة المدن وثقافة البوادى… إلخ، إذ ينفرد كل منها بسمات خاصة يفسرها ما تتميز به البيئة الأنثروبولوجية الخاصة بكل موطن، أى التى تفرض نوعا من العوائد والقيم قد لا تكون مشتركة بين المناطق المختلفة.
هذا ما يمكن لأى امرئ أن يلحظه حين يستعرض أمامه تلك الألوان المختلفة من المنتوج الثقافى الشعبى فى جغرافيات من المجتمع متنوعة، فالعمارة السائدة فى الريف وهى أثر ثقافى غير أنماط العمارة السائدة فى المدينة، والغناء الجبلى غير الغناء الصحراوى، ومطبخ أهل الساحل وملبوسهم غير نظيره لدى أهل الجبل والصحراء، وهذه جميعها منتوجات ثقافية للشعب عينه فى المجتمع عينه، فكيف إذا انتقلنا، بعملية السَّبر والميز، من المجتمع الواحد إلى مجتمعات عدة، حيث نصطدم عند النظر فى ثقافاتها الشعبية بما لا حصر له من الفوارق بينها.
من حسن حظ الثقافة الشعبية أنها ليست نمطية أو منمّطة ولا ينسج مبدعوها الكُثر المختلفون على منوال إبداعى وجمالى واحد. هذا ما يجعل تنوّع مصادرها ومواردها مبعث غنى لها ومعينا لتطوّرها لا ينضب.
عبدالإله بلقزيز
جريدة الخليج الإماراتية