جائزة لمهندس العالم
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 27 أكتوبر 2020 - 8:10 م
بتوقيت القاهرة
أظهرت الحياة الثقافية المصرية هذا الأسبوع وجها نضرا من وجوهها، حين رحبت الغالبية على مواقع التواصل الاجتماعى بفوز الشاعر المصرى عماد أبوصالح بجائزة تحمل اسم الشاعر العراقى الراحل سركون بولص وتجدد ذكراه.
وهو المولود عام 1944 فى بلدة الحبانية 800 كم غرب بغداد، قبل أن ينتقل مع عائلته إلى كركوك، حيث شكل مع الشعراء فاضل العزاوى ومؤيد الراوى وجان دمو وصلاح فائق ما سمى بـ«جماعة كركوك» وبعدها بدأ نشر قصائده فى مجلة شعر اللبنانية، اعتبارا من العام 1961
وعقب خمس سنوات فقط توجه إلى بيروت سيرا على الأقدام عبر الصحراء وذهب لمكتبة الجامعة الأمريكية، طالبا قراءة أعمال الشعراء: آلن جينسبرج وجاك كرواك جريجورى كورسو، بوب كوفمن، الذين كانوا عنوانا لتحولات كبرى تعيشها الثقافة الأمريكية فى النصف الثانى من الستينيات.
وشكل هؤلاء مصدرا رئيسيا من مصادر الوعى الفنى الذى أراده فى تلك الفترة ولذلك نشر بعدها ملفا فى مجلة «شعر» تولى فيه التبشير بما يعرف بجماعة الـ«بيتنيكس» التى ينتمى لها هؤلاء.
وقدم خلاله ترجمات هى الأولى عربيا لنصوصهم وأشهرها قصيدة «عواء» لألن جينسبرج التى تعد من أشهر نصوص جيل الغضب التى ساعدت أمريكا على أن تولد من جديدة كما يقول اندرو هارتمان فى كتابه: «الحروب الثقافية من أجل أمريكا»
واتسمت النصوص التى استهوت سركون، بنزعة سوريالية ثم وجودية، تطورت إلى الماركسية الفوضوية فيما بعد، بفضل انخراط أصحابها فى موجات الغضب السياسى حيث شهدت تلك الفترة صعودا قويا للحركات الطلابية والشبابية، عقب فترة حكم الرئيس جون كنيدى، وشيوع شعارات مارتن لوثر الداعمة لحقوق ذوى الأصول الأفريقية.
وأغوت تلك النزعة البوهيمية سركون بولص بمغادرة لبنان فى العام 1969 و الهجرة إلى أمريكا والارتباط بالشعراء الذين أحب أعمالهم.
ومن هناك واصل سعيه إلى كتابة قصيدة عربية مغايرة لما أنجزه شعراء الستينيات من شعر شاعت فى أغلبه غنائية مفرطة فى حسها الرومانسى أو نبرة المرثيات التى أعقبت سنوات النكسة.
وعندما جاءت الثمانينيات كانت أسماء مثل وديع سعادة وبسام حجار وعباس بيضون وسركون بولص ومعهم شعراء السبعينيات فى مصر يمهدون الطريق أمام شعراء الاجيال التالية الذين انتصروا فى شعرهم للضعف والهشاشة وكتبوا تفاصيل حياتهم اليومية وكان عماد أبوصالح أحد أبرز الاصوات الشعرية فى التسعينيات الذين استمدوا تميزهم من التعامل مع الذاكرة الشخصية كموضوع للكتابة.
ولأنى من جيل عماد أبوصالح فقد عايشت رد الفعل الذى نتج عن ظهور مجموعة سركون بولص الشهيرة «الحياة فوق الأكروبول» التى نشرتها دار توبقال المغربية، وبعدها بدأنا نتحدث عن تصور جديد للشعر، يرفض ما شاع من غموض فى التجارب التى كانت قريبة منا.
وعندما باشرت دار الجمل نشر بقية أعمال سركون ومنها: الوصول إلى مدينة أين، عاصمة الانفاس الأخيرة، الأول والتالى، عظمة أخرى لكلب القبيلة أدركنا أننا ازاء تجربة كبيرة تمثل انعطافة أخرى ومسارا يختلف عما أنتجه عفيفى مطر وأمل دنقل ومحمود درويش على ما بينهم من اختلافات فنية.
ورغم اختلاف تجربة الشاعر المصرى عماد أبوصالح عن تجربة سركون بولص الا أنها تسير مثلما سارت تجربة بولص، فى المسار المختلف وكأنها تستعيد المقولة الشهيرة لأدونيس: «بدأوا من هنا، فابدا من هناك».
ومن ثم تكتسب الجائزة التى نالها أبوصالح وسط ترحيب كبير قيمة معنوية مهمة، لأنها تؤكد جدارة المشروع الشعرى لعماد أبوصالح بعد أكثر من ربع قرن من استمتاعه بالكتابة وبالعزلة التى كانت خيارا فى العيش وفى الكتابة، حيث اختار صاحبها ألا يتورط فى شىء يكسر هذه العزلة وظل محافظا على استقلاله وعلى طريقته الفريدة فى النشر، مكتفيا بتوزيع أعماله التى ينشرها على نفقته على قراء يعرفهم وينتقيهم فردا فردا قبل أن تساعد شبكة الانترنت ومعها مواقع التواصل الاجتماعى على نشر قصائده وشيوعها عربيا لتصبح بمثابة «وصفة شائعة» يتم نسخها وتقليدها دون بلوغ الجوهر الذى بلغه شاعر العصب العارى الذى وصف نفسه بـ«مهندس العالم» وظل يكتب كما يرسم خوان ميرو بالبساطة التى تليق بطفل لا يشيب.
والجائزة بذاتها شهادة للشعر المصرى الذى يعيش ازدهارا كبيرا رغم تخاذل القراء والناشرين وتراجع وسائل دعمه بالكتابة النقدية، اذ لا يزال الشائع من الشعر منتميا إلى ما يسميه الشاعر الكبير عبدالمنعم رمضان «الشعر العمومى» فهو يكتب لاستهلاك المراهقين والمراهقات وملء فراغات فترات الهواء المفتوح على أثير الشبكات.