تركيا وتوازنات «شاوشانك»
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 27 ديسمبر 2021 - 6:50 م
بتوقيت القاهرة
كلنا شاهد أو سمع عن الفيلم الأمريكى «الخلاص من شاوشانك» الذى صدر عام 1994، شخصيا شاهدته عدة مرات، ولا أمل أبدا من مشاهدته كلما عرض على الفضائيات. والفيلم الذى أخرجه للسينما وكتبه «فرانك دارابونت» استنادا إلى رواية قصيرة لستيفن كينج صدرت عام 1982 باسم «ريتا هيوارث والخلاص من شاوشانك» يروى قصة المصرفى «آندى دوفرين» المحكوم عليه بالسجن المؤبد فى سجن ولاية شاوشانك (الخيالية) لاتهامه ظلما بقتل زوجته وعشيقها، وعلى مدى نحو عشرين عاما يمر «آندى» فى سجنه بكل أنواع التناقضات التى أرى أنها تعكس توازنا من نوع خاص. فالرجل خانته زوجته على الرغم من أنه محب لها ولم يحرمها من شىء.. سجن وحكم عليه بالمؤبد فى جريمة لم يرتكبها.. تعرض لشتى أنواع القهر النفسى والبدنى فى بداية فترة سجنه، على الرغم من أنه كان مسالما منطويا منكفئا على ذاته. وحينما بدأ يخالف كل المبادئ التى ألزم بها نفسه خارج السجن، شرعت الأيام تبتسم له قليلا فى محبسه! فها هو يكون الصداقات، وينعم بمعاملة خاصة من آمر السجن الفاسد، ويصنع ثروة باسم وهمى لصالح آمر السجن ثم يهرب من سجنه ليجمع تلك الثروة ويعيش من ثمارها فى مكان هادئ ما بقى من حياته.
التوازنات التى صنعتها أحداث الفيلم فى حياة «آندى دوفرين» كانت غير مألوفة. المقدمات لم تؤد إلى النتائج المنتظرة، فالإحسان لم يكن جزاؤه الإحسان، والفساد كان ردءا له من عذابات السجن ومضايقات ساكنيه. لكنه صادف من الأيام نوعا من العدل. توازنات «شاوشانك» العجيبة هيمنت على الكثير من أبطال وشخصيات الفيلم أيضا. صاحب «دوفرين» المقرب فى السجن، مهرب الممنوعات إلى النزلاء، والذى أدى دوره الممثل العبقرى «مورجان فريمان»، دفع حياته كلها فى السجن ثمنا لجريمة بائسة وحيدة ارتكبها فى مقتبل عمره وندم عليها أشد الندم، كان ينمق العبارات التى عساها تقنع اللجنة المختصة بمنحه إطلاق سراح مشروط، فكانت محاولاته تقابل دائما بالرفض، ولما استيأس من قرارات اللجنة وقابل أعضاءها بمنتهى الاستهانة والفتور، خرج حديثه صادقا فأطلقوا سراحه وهو غير مكترث للقرار. الحياة خارج السجن كانت أشد قسوة على صديقى «دوفرين» اللذين سبقاه إلى الحرية، وكأن شاوشانك قد غير من كل قوانين الحياة واستبدلها بنسق معكوس، يحيل القيد حرية والفساد مهارة والصدق مهلكة، تماما كما كان مصير شاب احتضنه «آندى» فى السجن وتصادف أنه يملك دليل براءته من تهمة قتل زوجته، لكن آمر السجن لم يكن ليتخلى عن «آندى» فدبر مقتل الشاب المسكين، الذى أوشكت مدة حبسه القصيرة على الانتهاء.
***
توازنات الاقتصاد لها شأن آخر، فلا يمكن أن تواجه التضخم الجامح بخفض أسعار الفائدة المصرفية، ثم تنتظر أن يتوقف التضخم تلقائيا وسريعا عن الجموح وتسترد العملة الوطنية شيئا من قيمتها. ولا يجوز مواجهة البطالة والكساد بسياسات مالية ونقدية تقشفية، أو مواجهة التهرب الضريبى بمزيد من فرض الضرائب مثلا... صحيح أن الاقتصاد يعرف أثرا للإبطاء، الذى يظهر فيه مردود القرار الاقتصادى متأخرا، لكن القوانين الثابتة للظواهر الاقتصادية لا تتهاون مع محاولات العبث بها، خاصة إذا كانت من الوضوح بمكان بحيث لا يمكن تجاهلها أو تأويلها على نحو مغاير لطبيعتها.
دعنا نرى كيف تصرفت تركيا مثلا مع تراجع قيمة العملة الوطنية خلال عامى 2019 و2020، فقد استنفدت جانبا كبيرا من احتياطى النقد الأجنبى والذهب لديها فى محاولة يائسة لترميم قيمة الليرة التركية، وذلك إلى جانب رفع أسعار الفائدة إلى مستويات تسمح بامتصاص فائض المعروض النقدى فى أوعية ادخارية بالجهاز المصرفى. ولما فشلت مساعيها أمام الضغط الشديد على العملة التركية فى بورصة العملات، اتجهت إلى تبنى سياسات عكسية لوقف نزيف التراجع فى قيمة الليرة! فها هى تتبنى منذ بداية العام الحالى سياسة توسعية لمواجهة انهيار كبير فى قيمة الليرة من خلال اللجوء إلى تخفيض منتظم ومستمر فى أسعار الفائدة! لكن توازنات «شاوشانك» لم تكن لتنصف السياسة النقدية التركية، فلو أن القرارات التقشفية فشلت جميعا فى كبح جماح التضخم ووقف نزيف العملة الوطنية، فإن القرارات التوسعية لن تحقق الغرض المنشود، حتى لو كان الهدف من خفض سعر الفائدة هو خلق فرص تصديرية أفضل، ومناخ جاذب للاستثمار بما يعود فى النهاية بالخير على الباحثين عن فرص العمل، ويرفع من مستويات التشغيل والدخول، ويزيد من مصادر النقد الأجنبى لتستقر قيمة العملة الوطنية، لأن الأثر المتوقع لتلك السياسة لن يكون سريعا، فى حين أن الانهيار فى قيمة الليرة كان سريعا، ومعدل التقلبات اليومية وعبر اليومية كان كبيرا بما يعكس ارتفاعا حادا فى مخاطر سعر الصرف، الذى هو من أهم مسببات عزوف الاستثمار، بل وتثبيط التجارة الخارجية أيضا... الأمر الذى يجعل الهدف المأمول من خفض أسعار الفائدة بعيد المنال.
***
تناولنا فى مقال الأسبوع الماضى بعض الاحتمالات التى تواجه الاقتصاد التركى فى ظل أهداف حكومية متضاربة ومربكة للمتابعين من أهل الاختصاص. وحتى إعداد المقال للنشر لم تكن الليرة التركية قد توقفت عن النزيف أمام الدولار الأمريكى فى بورصة العملات. بل تراجعت الليرة أمام الجنيه المصرى لأول مرة، حتى فسر البعض سعادة نفر من المدونين المصريين على مواقع التواصل الاجتماعى بالشماتة فى تركيا، لكننى أراها سعادة حقيقية لظهور فرص للسياحة والتبادل التجارى مع الشريك التركى بشروط أفضل للمصريين، وهو أمر طبيعى! وما إن صدر خطاب الرئيس التركى الذى وعد فيه بتدشين وعاء ادخارى يتحوط ضد تقلبات سعر الصرف، حتى استردت العملة التركية الكثير مما فقدته طوال عام من السقوط الحر أمام الدولار. مخاطر المنتج المالى الجديد ليست هينة، ويمكن أن تأتى على ما بقى من احتياطى نقد أجنبى فى البلاد، ذلك الاحتياطى الذى نزل إلى ما يقرب من 10% من مستواه قبل عامين! كما أن الادعاء بأن النظام التركى إذ يعمد إلى خفض أسعار الفائدة بانتظام إنما يريد أن يحقق نظاما أكثر توافقا مع الشريعة الإسلامية (خاصة إذا أصبح معدل الفائدة الحقيقى صفرا بأن يتساوى مع معدل التضخم) هذا الادعاء لن يصمد أمام المنتج الجديد الذى يمنح المودعين ضمانة بثبات القيمة أمام الدولار، وكأنه يفرض فائدة متغيرة فى اتجاه واحد فقط هو هبوط الليرة. ضمانة الأموال ضد مخاطر تقلبات سعر الصرف تسبغ على العائد الممنوح صفة يصعب تنزيهها من الشبهة الربوية.
توازنات «شاوشانك» لن تتحقق فى التجربة الاقتصادية التركية الجديدة. النظام التركى يشعر بمرارة الحصار الاقتصادى غير المعلن، يدفع ثمن الكثير من المشاغبات الإقليمية، يشعر بأنه يتعرض لمؤامرة كونية من المتلاعبين من الدول والمؤسسات والأفراد بهدف تركيع العملة التركية، ومن ورائها الاقتصاد التركى كله... المؤسف أن تلك المؤامرة (إن وجدت بالفعل) فإنها لا محالة محققة لأهدافها ولن تنجو منها تركيا أو أية دولة فى ظروفها، خاصة مع درجة انفتاح النظام الاقتصادى التركى على العالم الخارجى (أشرنا إليها فى المقال السابق). لن يكون بمقدور أية دولة الإفلات من هذا النوع من التواطؤ الأممى إلا إذا امتلكت وفرة من الموارد الطبيعية، وطبيعة جغرافية خاصة، وحققت الاكتفاء الذاتى من مختلف السلع والخدمات، وهى شروط لا تتوافر إلا لفترة زمنية محددة ولعدد محدود جدا من دول العالم.