ماذا تريد إسرائيل من الشرق الأوسط؟

عمرو حمزاوي
عمرو حمزاوي

آخر تحديث: الجمعة 27 ديسمبر 2024 - 7:20 م بتوقيت القاهرة

 فى الشرق الأوسط، تظل إسرائيل هى اللاعب الإقليمى الذى لم يتوقف منذ نشأته فى ١٩٤٨ عن توظيف أدواته العسكرية فى سلسلة حروب متتالية مع جواره العربى المباشر، وصار منذ ١٩٤٨ أيضا ومنذ تجاهل قرار تقسيم فلسطين الصادر عن الأمم المتحدة فى ١٩٤٧ دولة احتلال لأراضى الغير.

طوال السنوات الماضية، كانت حكومات تل أبيب المتعاقبة تنجرف تدريجيا نحو اليمين المتطرف واليمين الدينى الرافضين لمبدأ الأرض مقابل السلام وحل الدولتين لتسوية القضية الفلسطينية سلميا والمتمسكين بمواصلة الاحتلال والاستيطان فى الضفة الغربية والقدس الشرقية وحصار قطاع غزة. كانت حكومات تل أبيب بذلك تقوض أساس «عملية السلام» بينها وبين الحكومات العربية والتى بدأت بمعاهدة السلام المصرية ــ الإسرائيلية فى ١٩٧٩، ثم تلتها اتفاقات أوسلو ١٩٩٣ بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين إسرائيل، واتفاقية وادى عربة ١٩٩٣ بين الأردن وإسرائيل، ومن بعد الاتفاقات جاءت مبادرة السلام العربية ٢٠٠٢ ومن خلالها طالب العرب بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وباستعادة بقية أراضيهم المحتلة وعرضوا السلام والتطبيع الإقليمى على الدولة العبرية.

طوال السنوات الماضية، كانت حكومات تل أبيب تتنصل تدريجيا من التزامات اتفاقات أوسلو تجاه السلطة الوطنية الفلسطينية فى رام الله وتجرف القبول الشعبى للتسوية السلمية بين قطاعات الشعب الفلسطينى، وتحاصر غزة وتشتبك عسكريا بين الحين والآخر مع حماس والفصائل المتحالفة معها، وتجعل من سلامها مع مصر والأردن «سلام الحد الأدنى» فى ظل استمرار الاحتلال والاستيطان والحصار وترفض الانسحاب من الجولان السورية، وتتورط فى صراعات عسكرية مع حزب الله (حرب ٢٠٠٦) ومواجهات متكررة (منفردة أو بالتنسيق مع الولايات المتحدة) ضد حلفاء إيران على نحو هدد الاستقرار الإقليمى، وتبحث عن اختراقات فى مجالات التجارة والدبلوماسية والأمن فى عموم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا دون نجاحات كبيرة.

وحين واجهت إسرائيل فى ٢٠١١ خريطة شرق أوسطية مربكة بسبب انتشار الانتفاضات الشعبية وبسبب سرعة التقلبات السياسية وبسبب الحروب الأهلية التى قوضت استقرار المنطقة، قرر اليمين الحاكم فى تل أبيب الاشتباك مع الخريطة المربكة دون التخلى عن ثوابته المتمثلة فى التوظيف الممنهج للأدوات العسكرية، والتمسك بمواصلة الاحتلال والاستيطان والحصار فى الأراضى الفلسطينية وتجريف فرص التسوية السلمية، واستمرار الضغط على إيران وحلفائها من الحكومات والميليشيات المسلحة الذين حددتهم الاستراتيجيات الأمنية القادمة من تل أبيب كمصدر التهديد الأكبر الوارد على أمنها. ثم انتقلت حكومات اليمين المتطرف والدينى فى إسرائيل إلى المزج بين مواصلة تجريف السلام واستباحة الشعب الفلسطينى احتلالا واستيطانا وحصارا وتوجيه الضربات العسكرية المتتالية للأعداء المتمثلين فى حركات المقاومة فى فلسطين وفى حلفاء إيران فى لبنان وسوريا والعراق، وبين التنسيق الأمنى والدبلوماسى والسياسى والتبادل التجارى مع بعض الفاعلين الإقليميين الذين وقعت معهم  الاتفاقيات الإبراهيمية فى ٢٠٢٠.

•  •  •

كان مزج حكومات اليمين المتطرف والدينى المتعاقبة فى تل أبيب، والتى قاد معظمها بنيامين نتنياهو، كرئيس للوزراء، بين تجريف السلام واستباحة الشعب الفلسطينى وتوجيه الضربات العسكرية لحركات المقاومة ولحلفاء إيران وبين الانفتاح على فاعلين إقليميين متعددين هو العنوان الأبرز للسياسة الإسرائيلية فى الشرق الأوسط بين ٢٠١٥ و٢٠٢٣.

بل إن حكومات تل أبيب بمزيجها السياسى هذا والموظف على نحو ممنهج بين ٢٠١٥ و٢٠٢٣ عملت، مستغلة فى هذا السياق التأييد الأمريكى الكاسح لأفعالها والتخاذل الأمريكى والأوروبى عن دعم عملية السلام وحل الدولتين وتجاهل واشنطن وكبريات العواصم الأوروبية لمعاناة الشعب الفلسطينى وقصر دعمهم على المساعدات الإنسانية والاقتصادية والمالية، على تحقيق دمج إسرائيل الإقليمى أمنيا ودبلوماسيا وتجاريا واستثماريا والاقتراب من قبولها الشامل عربيا بالقفز على الحل العادل للقضية الفلسطينية وعلى شروط مبادرة السلام العربية ٢٠٠٢. وكان الهدف الاستراتيجى البين المبتغى من قبل الدولة العبرية هو التهميش الكامل لفلسطين وللسلام ولفرص حل الدولتين على خريطة الشرق الأوسط وإحلال مسألة مواجهة إيران واحتواء حلفائها ومكافحة الإرهاب والتوافق بشأن ترتيبات للأمن الإقليمى مع الدول العربية الكبيرة كمصر والسعودية والإمارات ومعهم الأردن وتركيا محلها.

وما أن حدث انفجار ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، إلا وكانت سياسات وممارسات حكومة اليمين فى إسرائيل ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو القائمة تعمل بعنف شديد على إلغاء حق الشعب الفلسطينى فى تقرير المصير وفى إقامة دولته المستقلة على حدود ٤ يونيو ١٩٦٧، وتوظف الآلة العسكرية لإعادة احتلال قطاع غزة وإخضاع سكانه ولتمكين المستوطنين من اقتطاع المزيد من أراضى الضفة الغربية والقدس الشرقية، والتنصل على نحو نهائى من حل الدولتين الذى استندت إليه معاهدات أوسلو.

منذ أكتوبر ٢٠٢٣، لم تقتصر سياسات وممارسات اليمين الإسرائيلى على العنف الممنهج ضد الشعب الفلسطينى، بل امتدت إلى عنف مشابه اتجه إلى لبنان الذى استبيحت أرواح مواطنيه ومواطناته وأرضه وسيادته، وعصف بأمنه بغية القضاء على حزب الله عسكريا وتنظيميا وماليا وإبعاده عن المناطق الحدودية ومنع السلاح الإيرانى من الوصول إليه مجددا. بل إن الضربات الإسرائيلية المتتالية ضد الوجود العسكرى الإيرانى فى الشرق الأوسط وضد المتحالفين معه أسفرت فى سوريا، من بين عوامل أخرى، عن سقوط نظام بشار الأسد وسيطرة فصائل مسلحة على أدوات الحكم والنظام العام، واستدعت فى اليمن دائرة من التصعيد والتصعيد المضاد بين إسرائيل والحوثيين ضحيتها الملاحة الآمنة فى البحر الأحمر.

•  •  •

على الرغم من ذلك، لم ينتصر بنيامين نتنياهو بعد فى حرب الاستنزاف الجديدة لأنه أصبح أسيرا لها ولاستمرارها وصار مفتقدا للقدرة على إيقافها مع الحفاظ على المكاسب المرحلية التى حققها، وفى مقدمتها شل قدرة حماس وحزب الله على شن هجمات على بلاده، وفرض التراجع على إيران والانكماش على خرائط نفوذها وإظهار محدودية قدرات الفعل والردع التى تتمتع بها الجمهورية الإسلامية.

نتنياهو اليوم ومعه اليمين الإسرائيلى المتطرف والدينى هو أسير حروبه وأسير رؤيته المتطرفة للشرق الأوسط، ولا يملك مهما بلغت نجاحاته الأمنية والعسكرية القدرة على إنهاء تلك الحروب وليس له فى شرق أوسطه الجديد من حلفاء. فمن أجل ذلك يحتاج نتنياهو فى فلسطين ولبنان إلى أطراف تقبل الاستسلام غير المشروط لكى تعيد إسرائيل السيطرة الأمنية الكاملة على غزة وتطلق العنان لعنف المستوطنين فى الضفة الغربية والقدس الشرقية وتقضى على حزب الله عسكريا وسياسيا. وأطراف فلسطينية ولبنانية كهذه غير موجودة، وإن وجدت فإن ضعفها السياسى وتهافتها المجتمعى لن يسمحا لها بفرض «السلام الإسرائيلى» على الشعبين الفلسطينى واللبنانى.

فى عموم الشرق الأوسط، يحتاج نتنياهو إلى دفع إيران إلى هاوية سحيقة من انهيار القدرات العسكرية والأمنية ومن انكماش خرائط النفوذ الإقليمى بحيث تنكفئ الجمهورية الإسلامية على ذاتها خوفا على بقائها وتبتعد عن دعم حلفائها من الحكومات والحركات والميليشيات المسلحة. وإيران كهذه، ومهما كانت قسوة تداعيات انهيارات حماس وحزب الله وسقوط نظام بشار الأسد ليست معنا، بل ما معنا هو محاولات مستميتة لمد خطوط دعم الحلفاء مجددا فى الجوار المباشر لإسرائيل ولتقوية الميليشيات فى العراق واليمن.

يعوز نتنياهو ويمينه الحاكم أيضا شركاء إقليميين يقبلون خرائطه «للخير والشر» فى الشرق الأوسط بإلغائها للدولة الفلسطينية واستعبادها الاستيطانى طويل المدى للشعب الفلسطينى واعتداءاتها المتكررة على سيادة وحقوق الشعوب العربية المجاورة فى لبنان وسوريا وعلى العراق واليمن وتهديدها للمصالح الوطنية المصرية والأردنية بأخطار التهجير القسرى للفلسطينيين والفلسطينيات ومجمل المصالح الإقليمية بفرض وضعية طويلة المدى من العنف والدماء والدمار وعدم الاستقرار بحرب الاستنزاف الجديدة.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved