قامُوس المَهزومين
بسمة عبد العزيز
آخر تحديث:
الجمعة 27 ديسمبر 2024 - 7:20 م
بتوقيت القاهرة
أخرج الرَّجلُ بطاقته من الحافظة ودسَّها في الفتحة المُخصَّصة واختار كلمة سَحب، ثم دَوَّن المبلغَ وانتظر قليلًا؛ لكن شيئًا لم يحدث. أعاد الكرَّة مُمنيًا نفسَه بالنجاح، سجَّل مبلغًا أقلَّ لعله يُفلح، راح يُحاول مرةً بعد الأخرى؛ لكن محاولاتِه مُنيت بالفشل. ارتسَمت على ملامحه خيبةُ الأمل وتبدَّت هزيمتُه أمام الماكينة وَشيكة؛ فيما توجَّس الواقفون خلفه مِن مُواجهة المَوقف ذاته.
* • •
المَهزومُ في قواميس اللغة العربيَّة مفعولٌ به؛ صادف مَن تفوَّق عليه وغلبَه، الفعلُ هزمَ والمرةُ الواحدةُ منه هزيمةٌ، ويُقال لصوت الرعد: الهزيم، وهي قرقعةٌ عاليةٌ في السَّماء مصدرها اصطدام كتلٍ هوائيةٍ مُختلفة الكثافة ببعضها. المرءَ ما انهزم بات بنفسِه الفاعلَ ولا حاجة هنا لمفعولٍ به، أما الانهزام فمصدر.
* • •
إذا قيل شرُّ هزيمة؛ فتعبيرٌ شائع في سياق النِزال. طَرَفٌ قد أثبت وجودَه وجدارته، وآخر قد مُني بالخِزي وبدا مُهانًا. لا يُحب أحدٌ أن يستخدمَ المُفردات التي تدلُّ على ضَعفِه، وقد جرَّبنا من قبل أن نهربَ من سَوْط الكلماتِ فأسمينا الهزيمةَ نكسة، مُحاولين أن نخلقَ صيغةً غير جارحة؛ لكن المُسمَّيات لا تُغير في حقيقة الأمر شيئًا ولا تبدل الواقع.
* • •
يقول أحمد عبد المُعطي حجازي: مَن تُرى يحملُ الآن عبءَ الهزيمةِ فينا.. المُغنِّي الذي طافَ يبحثُ للحُلمِ عن جَسَد يَرتديه.. أم هو المَلك المُدَّعي أن حُلمَ المُغنّي تجسَّد فيه؟ المَجاز رائقٌ مُوجعٌ في آن، وفاضحٌ ما أُحِيلَ للحقبةِ الزَّمنية التي كُتِبَت القصيدةُ فيها، وما طُبِّق أيضًا على الآني.
* • •
الهزيمةُ السَّاحقةُ هي تلك التي يُجرَّد فيها الطرفُ المَهزوم من مُعظم مُقومات النُّهوض؛ لكنها ليست نهايةً حاسمة، وأكم من رياضيّين تعرَّضوا لوعكاتٍ وأزماتٍ كبرى أقعدتهم عن التدريب والاجتهاد، ثم كافحوا وتعافوا واستعادوا لياقتهم وأحرزوا المراكزَ والكؤوس، وتلقوا الإشاداتِ من هنا وهناك.
* • •
هناك من هزمَ مرضًا عضالًا، وظل في مَوقعه مُناطحًا وفاعلًا حتى النهاية، وهناك من هزم إعاقةً مُزمِنة وحقَّق مُراده وتفوَّق على الأصِحَّاء، ومن هَزمَ ظروفًا اجتماعية قاهرةً عَصيبة وتمكَّن من التغلُّب على خلطة استفحالِ الفقر وتقهقُر فُرصِ التعليم وغيابِ العدل، وخلق لنجاحه مسارًا لم يكُن مرئيًا. ثمَّة مَن لا يعرف اليأسَ ولا يقوّض عزمَه الإحباطُ؛ يقاوم حتى النهاية وقد يحوّل الهزائمَ بإصرارِه إلى انتصارات، وثمَّة مَن تهزمه مصاعبُ الحياة وتوقِف مسيرتَه سدودُها وحواجزُها؛ فيستلذُّ القُّعودَ والبكاءَ على اللبن المَسكوب. الحدُّ الفاصل بين هذا وذاك يتعلقُ بحضورِ الإرادةِ وإيمانِ المرءِ بما يفعل.
* • •
الانهزامِيَّة طبعٌ أصيلٌ وليس مُكتسبًا؛ تتأتَّى مُلاحظتُه منذ الطفولة. بعضُ الناسِ يستسلمون مُبكرًا، وأحيانًا قبل أن يقوموا بأيّ محاولة، وبعضٌ آخر يحاول وييأس قبل أن يرى النتيجة، وهناك من يَرفع الرايةَ البيضاءَ ما أن يتلقّى أولى ضرباتِ الحياة؛ ولو كان في استطاعتِه تداركِها وتجنُّب الهَزيمة الكاملة. لا يحمل هؤلاءُ ميلًا للمشاكسَة والمُعافَرة، ولا قُدرةً على استخراج أيّ جانب إيجابيّ من الصراع؛ إنما يضخِّمون كلَّ ما هو سلبيّ ويتشرنقون داخله، ويلومون الحظوظَ والأٌقدار.
* • •
ربما تمثل الهزيمةُ أحد عوامل التقوية التي تُورِث المرءَ صلابةً وحكمة؛ لكنها قد تتحوَّل إلى مَصدر إضعافٍ إن تخطَّت حدودَ الاحتمال وكَسَرت صاحبها؛ بل ربما تُنتِج الهزائمُ الصغيرةُ -ما تراكمت- فارقًا نَوعيًّا؛ فالشَّخص الذي لا يعرف سوى انكساراتٍ مُتتالية ولا يجرب أبدًا طعم النَّصرِ والتتويج، تبقى مَشاعره مَحصورةً في نطاقٍ ضَيق مَحدود، لا تخرج عنه ولو جاءت الفُرصة.
* • •
قد يصبح العشقُ ميدانًا لهزائم قاسية، تؤثر في المَهزوم بأكثر مما تفعل كبواتُ الحياة الأخرى، وكثيرًا ما يُضرب المثل بهذا الذي صَمَد لمَصاعبٍ هائلة تُزلزِل الجِبالَ؛ ثم هزمته امرأة. وَجه الهَزيمةِ هنا عصيبٌ، فالتجربةُ شديدةُ الذاتية وأثرها عَميقٌ مُمتَد.
* • •
أحيانًا ما يهزمُ المَرءُ نفسَه قبل أن ينخرطَ في المَعركة، وغالبًا ما يكون انهزامه الداخليّ المُبكر وإحساسُه باستحالة تحقيقِ الفوز؛ تمهيدًا لهزيمتِه الحقيقيَّة على أرضِ الواقع، والعكس صحيح. الشخصُ المَهزوز مَهزومٌ منذ البداية؛ فتخلخُل الثقةِ يفقده الإصرار والعناد، وكلاهما رافدٌ مُؤثرٌ في تحقيقِ الانتصار.
* • •
الهزيمةُ النكراءُ هي تلك التي يبدو الخَصمُ فيها هزيلًا بلا حول ولا قوة، سقوطه مُشين لا شرَف فيه، ومَسلكه باهتٌ مُتدنٍ، مَنزوع النديَّة وخاوٍ من روحِ المُقاوَمة، أما الهزيمةُ المُشرفة فتلك التي يبذل فيها الخَصمُ كاملَ جَهده؛ يُقدم أداءً يُجبر الآخرين على احترامه، ويبدو الفارق بينه وبين المُنتصِر ضئيلًا.
* • •
يقول نزار قباني: خَسرنا الحربَ لا غرابة.. خَسرنا لأننا ندخلها بمنطقِ الطَّبلة والربابة. قد تكون الخسارةُ بسبب سوءِ الإعداد، أو لأسبابٍ خارجيةٍ لا حيلةَ في مُواجهتها، وقد تكون لخيانة وَقعَت ولم يُلتَفت إليها. الهزيمةُ خَسارةٌ أكيدة، والخسارةُ بعض المرَّات فادحةٌ يَصعبُ تداركُها، أما عن الخيانة؛ فعارٌ أبديّ لا يزول.
* • •
في كثير الأحيان تغدو الهزيمةُ المَعنويةُ أقسى على المَرءِ وأشدَّ وطأةٍ من أيّ هزيمةٍ ماديةٍ مَلموسة؛ فالروح ما ذبُلت وذَوت؛ انسدَّ أفقُ العَودة، أما إن استمرَّت حيَّةً مُتوثبة؛ حثَّت صاحبَها على المُحاولة وأعادته للحَلبة.