يقرأون عقولنا
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 28 يناير 2015 - 8:30 ص
بتوقيت القاهرة
كنت أفخر بامتلاك موهبة قراءة الوجوه. أظن أننى اكتشفت هذه الموهبة خلال محاولاتى، وأنا صغير، التنبؤ بمواقف والدىّ من رحلة أقوم بها مع مدرستى أو من عزمى تنفيذ أحد مخططات التمرد.
تعرفت من تجاربى مع أهلى على مواقع الغضب وعلامات الرضا والحيرة وعدم الانتباه والسخرية وبوادر العنف فى وجه من أتحدث إليه.
ومع الوقت، رزقت بصبى وفتاتين. وأظن أن ثلاثتهم عانوا على مر سنوات التنشئة والنضج والشباب ما لم يعانيه أقرانهم من أبناء وبنات الجيران والأقارب. كثيرا ما اشتكوا من أن لهم أبا يقرأ عقولهم ويكشف خططهم ويعرف الكثير من خباياهم وأسرارهم، يفعل هذا ويحصل على ما يريد من معلومات بمجرد النظر فى وجوههم والتدقيق فى رصد ما يتغير من تثنيات على الجباه وتجاعيد على حواف الشفاه و«نغزات» تظهر وتختفى.
<<<
اعترف الآن، أننى استفدت من هذه الموهبة أثناء عملى بالدبلوماسية، وفى بناء علاقات صداقة أو تبادل عواطف. كنت دائما على ثقة بأنه ما من إنسان يستطيع التحكم فى كافة أعضاء وجهه فى وقت واحد وبدقة تامة. تعلمت أين أرى الكذب فى عينى شخص يزعم أنه صادق، وأرى الحب على خدود وشفتى امرأة ترفض الاعتراف بأنها تحب. أجدت كافة اللغات التى يعبر بها الوجه عن اعجاب صاحبه بلحن موسيقى أو عن شوقه لعزيز غائب وعن سعادته بتحقيق إنجاز وشقائه لخيبة أمله فى رئيس لا يقدره أو مرءوس لا يريد أن يتعلم. تصورت على مر السنوات أننى استثناء أو فلتة وأنه يجب أن أتكتم على هذه الموهبة، حتى جاء يوم قرأت فيه قصة صعود فتاة مصرية، تخرجت فى الجامعة فى مصر فى عام 1998 متخصصة فى علوم الكمبيوتر ومتشبعة بفكرة واحدة. أما الفكرة فهى أن تدرس وتدرس وتتحمل التضحيات حتى تتمكن من اختراع تطبيق على الكمبيوتر يساعدها على «قراءة ما يدور فى عقول الناس».
<<<
وبينما كنت أبحث فى سيرة هذه الفتاة تعرفت على إنجازات «كومبيوترية» لم أكن قد سمعت عنها من قبل رغم اهتمامى المتواصل بموضوع التعدى المتزايد على خصوصيات الإنسان لصالح الحكومات والشركات. بحثت وقرأت، وفى كل ما قرأت غلبنى الانبهار. قرأت عن رجل يطلب سيارة تاكسى لتنقله إلى عمله. ينزل من بيته مسرعا ويستقل التاكسى، الذى كان ينتظره ويجلس على مقعده خلف المقعد المجاور للسائق. لا يعرف أن هذا المقعد الأمامى مزود بكمبيوتر، ومزود أيضا بكاميرا صغيرة تكاد لا تراها عين مجردة. الكاميرا تلتقط بدقة متناهية تفاصيل حالة الوجه. تدرس انكماشات وانبساطات تجاعيد العينين، وتدقق فى تقطيب الحاجبين وانفراجهما، وتنقل التغيرات فى لون الخدين والشفتين. هذه الصور ترسلها الكاميرا أولا بأول إلى الكمبيوتر الذى يحللها وفى لحظات ينقل النتائج إلى جهة خارجية. أما النتائج فتتضمن بين اشياء كثيرة مزاج الراكب، إن كان متوترا وقلقا، أم هادئا ومستقرا. إن كان منهكا لم ينم الليل أم مستريحا. هذا الراكب نفسه تنتظره كاميرا أخرى وكمبيوتر آخر فى تاكسى آخر يستكمل المهمة فى المساء، بتقرير أخير عن حال هذا الراكب عند العودة من العمل. ما لا يعرفه الراكب هو أن هذه المعلومات وغيرها مما جرى جمعه وتحليله خلال اليوم صارت فى حوزة شركات إعلان وإدارة مباحث وجهاز أمن قومى ومركز تجسس أجنبى.
<<<
قرأت أيضا أننا، كمستهلكين، يجب أن نستعد ليوم قريب جدا نجلس فيه لنشاهد «يوتيوب» لن نعرف فى البداية ولكننا سندرك فى النهاية، حقيقة أن هذا اليوتيوب يرانا كما نراه. يراقبنا ويحصل من تفاصيل وجوهنا على كافة المعلومات عن حالتنا الصحية والمعنوية وأمزجتنا ورغباتنا. يراقب ويحلل ويرسل إلى جهات أخرى تقارير متتابعة عن أحاسيسنا وانفعالاتنا فى لحظات المشاهدة. يجب ألا اندهش حين أجد أمامى على الشاشة رسالة من شركة أدوية تنصحنى بابتلاع أقراص دواء معينة لأن ملامح الوجه كشفت عن قلق أو ألم أو تعب وإرهاق.
<<<
يبدو أننا لن ننتظر طويلا. كنت قبل أيام قليلة أطالع إحدى المجلات المتخصصة فرأيت موضوعا مزودا بالصور عن ساعة يد انتجتها شركة Apple، مهمتها نقل معلومات بصفة دورية عن حالة أعصابنا وانتظام ضربات القلب واعتدال ضغط الدم ودرجة انفعالنا وحساسيتنا للظروف المحيطة بنا ونسبة انتباهنا وتركيزنا. أضف إلى معلومات هذه الساعة الانجاز العظيم الذى حققه مشروع «انترنت الأشياء». تتلخص فكرته فى أن سيارتى ستكون مزودة بكمبيوتر وكاميرات تجمع المعلومات عنى أولا بأول، وتحللها ولا تنتظر منى رأيا بل تتخذ بنفسها قرارات بشأنها. سيقوم الكمبيوتر بتكليف «الأشياء» لتتحرك وتنجز. رسالة مثلا تذهب إلى شموع الاشتعال فى فرن البوتاجاز فى منزلى ليبدأ طهو الطعام، ورسالة أخرى إلى سخان المياه فى الحمام ليبدأ ملء حوض الاستحمام بالماء الساخن، ورسالة إلى مكيفات الهواء لتستعد بتكييف البيت بما يناسب حالتى وحالة الطقس. أنا فى هذه الرحلة، لا أنطق ولا أوجه تعليمات ولا أعلم شيئا عما يحدث بدون استشارتى. الكمبيوتر يقرر وينفذ بناء على «قراءته لعقلى» ولوجهى وكافة أعضاء جسمى.
<<<
أعود الآن إلى قصة الفتاة المصرية التى تخرجت عام 1998. اسمها رنا القليوبى. هى الآن فى السادسة والثلاثين بعد أن حققت الجانب الأكبر من حلم حياتها، أن يأتى يوم تتمكن عنده من قراءة عقل الغير. أتى اليوم ولكنها تعترف أنها لا تزال بعيدة عن تحقيق الجانب الصعب من الحلم ألا وهو قراءة «العقل الباطن»، وبكلمات أخرى «قراءة النوايا». يكفيها فخرا ومنزلة علمية أنها ساعدت الطب فى تحقيق تقدم هائل فى علاج المرضى بالتوحد، بفضل البرامج التى ابتكرتها وطورتها لقراءة عواطف وأحاسيس الآخرين، فأزالت العقبة التى سدت معظم مسالك الطريق أمام أطباء مرضى التوحد.
بقدر ما حققت رنا من نجاح، بقدر ما تعرضت لضغوط فظيعة، وبخاصة حين وصلت أخبار بحوثها إلى الشركات العالمية متعددة الجنسيات، من نوكيا وتويوتا إلى ياهوو وIBM وe-bay وميكروسوفت وآبل وبيبسى وموتورولا وبنك أوف أمريكا وهولمارك وهوندا وجيبسون، وانتهاء بوكالة ناسا. لقد قدمت ابتكاراتها لشركات الإعلان والإنتاج خدمة لم يحلموا بها، وهى معرفة كل التفاصيل المتعلقة بمزاج المستهلك فى كل لحظة من النهار أو الليل، ومعرفة تطورات ميوله الاستهلاكية وتأثير علاقاته الزوجية والعاطفية مثلا على نمط استهلاكه، ولكن كان الأهم دائما من نمط استهلاكه هو درجة انتباهه. فانتباه المستهلك هو أهم مصدر بين مصادر ثلاثة يعتمد عليها المعلن. يعتمد على دخل المستهلك، وعلى وقته، ودرجة انتباهه.
بهذا الانجاز تكون رنا القليوبى قد ساهمت فى ثورة علمية سيذكرها التاريخ، وبخاصة تاريخ صناعة الإعلان فقد انهمرت عليها وعلى شركتها AFFECTIVE فى الشهور الأولى لنشأتها ملايين الدولارات فى استثمارات مشتركة أو مقابل خدمات ودراسات ميدانية، أو لتحقيق رغبة من هذه الشركات فى دعم هذا الإنجاز العلمى. ولكن لا تستطيع رنا ومساعدوها التنكر لفضل الصندوق الأمريكى للعلوم الذى قدم منحة بمبلغ مليون دولار لم يكن ممكنا بدونه أن تواصل الآنسة رنا العمل فى مشروعها الأكاديمى.
<<<
رنا القليوبى، فتاة مصرية حصلت على منحة من دولة أجنبية. رنا حصلت على تمويل أجنبى. يبدو أن خبر هذا التمويل لم يصل وقتها إلى علم العدد الكافى من الإعلاميين والمسئولين المصريين والمنشغلين بقضية التمويل الأجنبى. راحت عليهم فرصة إجهاض قفزة علمية جديدة، فاتهم أيضا التواطؤ فى جريمة إحباط أحلام شابة مصرية، فاتهم تخوينها أو حتى قتلها والتخلص منها. أليس هذا هو همهم الأكبر وشاغلهم الأعظم؟