تلك اللحظة
خولة مطر
آخر تحديث:
الأحد 28 يناير 2018 - 9:55 م
بتوقيت القاهرة
قال لى وأنا أحزم حقائبى مغادرة بيروت إلى القاهرة: سنحزن لبعدك ولكنك ستحضرين الثورة فهنيئا لك.. ولأنه أستاذى كما هو أستاذ للعديد من الصحفيين والصحفيات العرب فقد خجلت أن أسأله عن أى ثورة يتحدث وبهيئة مجهدة من عناء سنين من النهب والتعب والفقر والظلم..
***
دخلت مدينتى القاهرة كما كل مرة بكثير من الفرح على الرغم من قساوة المشهد وعشت كعادتى فيها وبها منذ سنى الطفولة كثير من دفئها النادر.. تبقى القاهرة وكل مصر فينا نحن ذاك الجيل الذى ربما يكون قد شهد بعض لحظات من الكرامة أو الفرح الحقيقى..
***
لم يمض سوى أقل من عام وكان ذاك المشهد المؤثر عند كوبرى قصر النيل، وكنت فى تونس مع فريق من الأمم المتحدة للوقوف على الثورة هناك والانتهاكات التى تمت بحق أبنائها وبناتها.. كانت تونس تعيش نشوة الانتصار الأولى والجميع فى حالة من الاحتفال بنصر لم يتوقع أن يتم وبهذه السرعة.. جاءت المكالمة فى الثامن والعشرين وطلب منى العودة على وجه السرعة إلى القاهرة للوقوف على ما يجرى هناك ومتابعة تفاصيل الميادين! كانت الرحلة شيئا من المغامرات التى اعتدتها وقت تغطيتى لبعض الحروب هنا وهناك ولكن بنكهة أخرى..
***
فقد تم إعلان حظر التجول بعد الساعة الرابعة وكانت طائرتى تصل عند الرابعة تماما.. حطت الطائرة فى مطار تسوده حالة من الفوضى فأفواج سياحية حائرة إلى أين ستنقل وركاب لا يعرفون كيف يصلون إلى بيوتهم.. كانت النصيحة من موظفى المطار ثم الزملاء فى الأمم المتحدة أن أذهب لأحد الفنادق القريبة من المطار حتى صباح اليوم الثانى..
***
شىء من تلك الصحفية الشقية حضر لحظتها فحملت حقيبتى.. درت فى مواقف السيارات حتى عثرت على سيارة بها شابان كان يبدو عليهم «السطلنة» الكاملة وعلى الرغم من ذلك فقد حزمت أمرى أن أكون فى بيتى فى ذلك المساء وهكذا كان تفاوضت مع الشابين وانتقلنا فى مغامرة بين أزقة وحوارى شىء شبيه بأفلام هوليوود.. مرت لحظات كانت تبدو طويلة فى شوارع خالية من أى مصدر للحياة لا عربات متراصة ولا أصوات «الزمامير» ولا الباعة عند الأرصفة ولا.. ولا حتى الحيوانات فرت.. مررنا بالكثير من المناطق بأحياء لم يلتزم سكانها بحظر التجول ربما سمعوا به ولكنهم قرروا المضى فى حياتهم كما هى، وهذا ما أضاف بعض الاطمئنان خاصة أنه قد تأكد لى ونحن نمضى فى طريق لا نعرفه بأن السائق وصديقة قد تعاطيا شيئا من المخدرات قبل أن يفكروا فى توصيلتى هذه التى قد تساهم فى أن يكملوا «جلسة السطلنة»!!!
الحوارى الضيقة كانت مكتظة كالعادة بجلاس القهاوى على الأرصفة والشيش وأكواب الشاى المسكر وبائعى الفول والطعمية... كل المشاهد هنا لا توحى بأن البلد يمر بأكثر مراحل تاريخه الحديث خطورة..
***
عند وصولى للعجوزة اتضحت الصورة أكثر ومبنى الحزب الوطنى يحترق أمام أعين المارة... مع مرور الأيام بعدها وحتى تنحى الرئيس حسنى مبارك كان ميدان التحرير مصدر السعادة اللامتناهية لثورة بدت وكأنها شىء من «اليوتوبيا»... المشاهد فى الميدان لا تزال راسخة فى الذاكرة كما دونها وسيدونها كثيرون كانوا هناك وآخرون راقبوها من بعيد مع شديد التعاطف بالتأكيد... كسر الميدان كل الحواجز وكل القناعات المترسخة عبر السنين ليس فقط لدى المصريين وإنما لدى كل العرب بل ربما العالم بأجمعه... تلك الصورة ستبقى ولن ترحل أبدا
***
وكنا أنا وبعض الصديقات والأصدقاء نلتقى عند نفس الكوبرى أى قصر النيل وندخل الميدان آمنين، سعداء بل منتشين بتلك اللحظة !!! نبقى لساعات طويلة نتجول بين حلقات النقاش ونهتف بين... وبين... ونساهم فى فهم المطلوب لتقديم الدعم والمساعدة لمن جعلوا من الميدان منزلهم وكعبتهم..
***
وفى ذاك المساء ونحن نهم بالخروج من الميدان ربما متعبين بعض الشىء ونحن نردد متى سيرحل وإذا بعربة صغيرة تتقدم من مدخل الميدان عند مبنى الجامعة العربية قبل الحاجز الأول لحراس الميدان الذين التزموا بأن تكون الثورة سلمية فوقفوا ليمنعوا أيا من المتسللين لتشويه ذاك المشهد الرائع.. كانت تلك السيدة المنتقبة والممتلئة ونصف جسدها خارج من شباك السيارة التى بدت وكأنها محشورة بها لصغر العربة أو ربما لكبر حجم السيدة.. راحت تصرخ بأعلى صوتها «رحل» رحل.. رحل.. وبفرح وقفنا لم نعرف ماذا نفعل جلست أنا وصديقتى حضنا بعض طويلا وبكينا بكاء دافئا.. فجأة وكأن الشوارع لم تعد تتسع لسكانها الجدد رفعت الأعلام وعلا صوت الزغاريد..
أمسكت بهاتفى واتصلت به هو أستاذى جاءنى صوته الدافئ قلت معك حق لقد شهدت الثورة.. هى تلك اللحظة.
كاتبه بحرينية