رؤية منصفة لحكم تاريخي من محكمة العدل الدولية
مصطفى كامل السيد
آخر تحديث:
الثلاثاء 30 يناير 2024 - 11:21 م
بتوقيت القاهرة
تأملت جنسيات قضاة محكمة العدل الدولية الخمسة عشر قبل مشاهدتى للحكم التاريخى الذى أصدرته المحكمة يوم الجمعة الماضى السادس والعشرين من يناير. افترضت أن كلا منهم سيعكس موقف دولته من الحرب التى تدور رحاها فى غزة، وتشاءمت لحظتها كثيرا، فلم أجد من بينهم من يمكن أن يصدر حكما ينصف الفلسطينيين والفلسطينيات سوى ست أو سبع من دول الجنوب، ثلاثة من العرب؛ مغربى ولبنانى وصومالى، وواحدة من أوغندا ــ جوليا سيبوتيندى ــ تصورت وقتها أنها ستلتزم بموقف حكومتها، وواحد من البرازيل، وسادس من جامايكا، وتصورت أن القاضى من سلوفاكيا يمكن أن يقف معهم، فقد قرأت أن سلوفاكيا يمكن أن تنضم لجنوب إفريقيا فى تلك الدعوى.
طبعا لم أتصور أن رئيسة المحكمة جوان إى دونوغو، التى رشحتها وزارة الخارجية الأمريكية، يمكن أن تتخذ موقفا منصفا، ولا القضاة من ألمانيا واليابان وأستراليا الذين أيدت حكوماتهم ما تدعيه إسرائيل عن حقها فى الدفاع عن النفس، بل ولم أكن مطمئنا لمواقف نائب رئيس المحكمة الروسى، ولا القاضيين الصينى والهندى، فكما تخشى روسيا من اتهامها بالإبادة الجماعية فى أوكرانيا، تخشى الصين من اتهامات مماثلة فى التبت أو شينجيانج، وخذلت حكومة الهند الدول العربية بامتناعها عن التصويت على قرارات ناقدة لإسرائيل فى الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وكم أكبرت قضاة هذه المحكمة عندما شهدت رئيستهم تلقى حكم دامغ ضد إسرائيل. فوفقا للحكم، شبهة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية من جانب إسرائيل فى غزة قائمة، وتستحق تحقيقا جادا من جانب المحكمة، والحقوق الأساسية للشعب الفلسطينى فى غزة فى الحياة وعدم التعرض للأذى المادى والمعنوى هى معرضة للخطر، كما أن ظروف حياتهم موضع تخطيط يستهدف إنهاء وجودهم كجماعة قومية، بل وفرص تزايدهم بمولد الأطفال مهددة، ولذلك كله يستحقون أن تأمر المحكمة بتدابير مؤقتة بهدف حماية هذه الحقوق من أن يلحق بها خطر لا يمكن تداركه. وليست هذه عبارات تلقى فى الهواء، ولكنها التزامات على عاتق إسرائيل، وعليها أن تقدم تقريرا فى خلال شهر من تاريخ هذا الحكم لتثبت إلى أى حد احترمته على أرض الواقع.
هذه هى المرة الأولى فى تاريخ إسرائيل التى يطلب منها أن تقبل الخضوع للمساءلة أمام أعلى مؤسسة قضائية فى العالم. وكل قضاة المحكمة أصدروها باستثناء القاضية الأوغندية والقاضى المعين من إسرائيل اللذين اعترضا عليها، كلها أو بعضها. هؤلاء القضاة قد ضربوا مثلا رائعا فى الالتزام بما تمليه عليهم ضمائرهم وفهمهم الصحيح لحكم القانون، وناصروا دعوة جاءت من إحدى دول الجنوب، وعلى عكس إرادة أقوى دولة فى العالم، وربما عكس إرادة معظم حكوماتهم.
الهزيمة المطلقة للفريق الإسرائيلى
حتى نعرف مدى النصر الأخلاقى الذى حققه هذا الحكم علينا أن نقارنه بما طالبت به كل من إسرائيل وجنوب إفريقيا. هذه المقارنة ضرورية خصوصا فى حالة مطالب الفريق الإسرائيلى، فقد شاهدت نقاشا حول هذا الحكم على إحدى القنوات التلفزيونية الإسرائيلية، أشاد المشاركون فى النقاش بالفريق الإسرائيلى، وذلك على عكس مضمون الحكم. لقد طالب الفريق الإسرائيلى بعدم نظر دعوى جنوب إفريقيا بحجة أنه لا يوجد نزاع ثنائى مع جنوب إفريقيا، وجادل أن المحكمة ليس لها اختصاص بنظر هذه الدعوى، فما تشكو منه حكومة جنوب إفريقيا يمكن النظر فيه فى إطار القانون الدولى الإنسانى، وليس اتفاقية منع ومعاقبة الإبادة الجماعية، بل ووصلت به الجرأة بل الوقاحة أن يطلب من المحكمة حذف القضية تماما من سجلها. كما أضاف أنه ليس هناك ما يدعو إلى الأمر بتدابير مؤقتة، حيث أن حقوق الشعب الفلسطينى فى غزة ليست مهددة، فإسرائيل، وفقا له، اتخذت كل الإجراءات التى تضمن حماية السكان المدنيين.
كل المطالب الإسرائيلية رفضتها المحكمة بأغلبية ساحقة يُستثنى منها القاضية الأوغندية. أقرت المحكمة أنه يوجد نزاع بين إسرائيل وجنوب إفريقيا يجد دليله فى مواقف متناقضة بشأن ما جرى فى غزة فى محافل دولية وفى اتصالات ثنائية، كما أن كليهما طرف فى اتفاقية منع الإبادة الجماعية التى تحمل كل الموقعين عليها مسئولية احترامها، وأكدت المحكمة أن ما تقوم به إسرائيل فى غزة يثير شبهة تعمد الإبادة الجماعية وممارستها، ومن ثم فالمحكمة مختصة بالنظر فى شكوى جنوب إفريقيا وعلى أساس هذه الاتفاقية التى ترفض إسرائيل انطباقها عليها، ولذلك تقبل المحكمة أن تنظر فى دعوى جنوب إفريقيا على أساس هذه الاتفاقية، وترى أن هناك ما يدعو للاعتقاد بأن الحقوق الأساسية للشعب الفلسطينى فى غزة مهددة جماعيا، ولذلك هم يستحقون إصدارها لأمر يستهدف حماية هذه الحقوق.
ماذا عن الاستجابة لمطالب جنوب إفريقيا؟
يمكن القول بأن قضاة المحكمة قد قبلوا كثيرا من المطالب التى قدمها فريق جنوب إفريقيا، المحكمة قبلت الدعوى، ووافقت على النظر فيها فى إطار اتفاقية منع ومعاقبة الإبادة الجماعية، ووافقت ــ كما دعت لذلك جنوب إفريقيا ــ على الأخذ بتدابير مؤقتة لحماية الحقوق الأساسية للفلسطينيين والفلسطينيات فى غزة. أى إن المحكمة قبلت تكييف فريق جنوب إفريقيا للقضية على أنها تتعلق بمنع الإبادة الجماعية، ولكن فيما يتعلق بالمطالب المحددة من جنوب إفريقيا وهى تسعة مطالب، وافقت المحكمة على ثلاثة منها، وهى المطالب (4 و6 و8)، واستبعدت المطالب (١:٣ و٥ و٩). المطالب التى وافقت عليها المحكمة هى الخاصة بالتزام إسرائيل بمنع قتل الفلسطينيين، ومنع إلحاق الأذى المادى والمعنوى بهم، وألا تفرض عليهم ظروف حياة يقصد بها فناؤهم كجماعة، كما وافقت على المطلبين الخاصين بوقف إثارة الكراهية، وعدم تدمير الدلائل المتعلقة بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، ولكن لم تستجب المحكمة للمطالب الثلاثة الأولى التى تتعلق بوقف الأنشطة العسكرية سواء من قوات إسرائيل النظامية أو من جانب فرق غير نظامية، كما لم تستجب للمطلب الخاص بوقف التهجير القسرى للسكان أو تدمير منازلهم.
وقد أثارت عدم موافقة المحكمة على المطالب الخاصة بوقف العمليات العسكرية أو المتعلقة بوقف التهجير القسرى للفلسطينيين والفلسطينيات تساؤلات بل والاستنكار ليس فقط من جانب قسم من الرأى العام الذى تعبر عنه التعليقات على أدوات التواصل الاجتماعى، ولكن حتى من بعض الدوائر الحكومية؛ وزارة الخارجية المصرية مثلا والتى رحبت بقرار المحكمة ذكرت أنها كانت تتمنى لو أن قرار المحكمة تضمن أيضا الأمر بوقف إطلاق النار باعتبار أن ذلك سيكون سندا لأوامر المحكمة بوقف القتل وإلحاق الأذى بالفلسطينيين.
لكن يتضح من قراءة نص حكم المحكمة أنها استندت فقط لاتفاقية منع ومعاقبة الإبادة الجماعية، ولمّحت إلى أن تجاوز ذلك من شأنه الخروج عن الإطار القانونى لمطالب جنوب إفريقيا التى استندت فقط لهذه الاتفاقية. ومن ناحية أخرى، فإن الأفعال التى دعت المحكمة فى التدابير المؤقتة التى أمرت بها، وهى منع القتل وإلحاق الأذى والخلق المتعمد لظروف حياة تؤدى إلى فناء الجماعة الفلسطينية، لا يمكن الوفاء بها إلا بوقف الحرب. فكيف يمكن الحيلولة دون القيام بهذه الأفعال مع استمرار الحرب؟ وينطبق ذلك أيضا على مطلب جنوب إفريقيا الخاص بحظر التهجير القسرى أو هدم المنازل، فهو ينطبق عليه ما دعت له التدابير المؤقتة من عدم إلحاق الأذى المادى أو المعنوى بالفلسطينيين، كما أن مثل هذه الأفعال هى ما مارسته آلة الحرب الإسرائيلية فى اعتداءاتها على الشعب الفلسطينى بغزة. وأستبعد كثيرا أن يكون الدافع لعدم استجابة المحكمة لمطالب جنوب إفريقيا بوقف الحرب هو ممالأة قضاة المحكمة لإسرائيل، فمجرد قبول الدعوى التى تتهم إسرائيل بممارسة الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطينى بغزة، وبموجب اتفاقية دولية شُرعت أصلا لوقف ممارسات شبيهة بالمحرقة التى راح ضحيتها ملايين من اليهود فى أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، هو إدانة أخلاقية وقضائية لإسرائيل، ولا يمكن أن تأتى مثل هذه الإدانة ممن يتعاطفون مع إسرائيل.
طبعا التدابير المؤقتة هى مجرد شق مما طلبته جنوب إفريقيا، وهو الشق المستعجل لحماية الحقوق الأساسية للفلسطينيين والفلسطينيات فى غزة، والشق الآخر هو إثبات جريمة الإبادة الجماعية لهم على يد إسرائيل، وهو مؤكد فى رأى الفلسطينيين وكُثر من العرب ولدى قطاع واسع من الرأى العام العالمى ناصر ضد حكوماته الشعب الفلسطينى بمظاهرات حاشدة، ولكن القطع به قضائيا لم يتحقق حتى الآن، ولا ينتظر أن يتحقق قبل مرور أعوام، فقضايا محكمة العدل الدولية من هذا النوع لا تحسم فى شهور بل تستغرق أعواما كما كان الحال فى دعوى الإبادة الجماعية فى ميانمار التى رفعتها حكومة جامبيا فى ٢٠١٩ واتخذت فيها المحكمة قرارها فى فبراير 2022 أو دعوى الإبادة الجماعية فى البوسنة والتى رفعتها حكومة البوسنة والهرسك ضد حكومة صربيا والتى استمرت منذ ١٩٩٣ــ حتى سنة ٢٠٠٧.
ما هى آثار هذا الحكم المبدئى؟
طبعا نحن نتألم لاستمرار المجزرة التى لم تتوقف آلة الحرب الإسرائيلية عن مواصلة ارتكابها ضد الشعب الفلسطينى فى غزة خصوصا ولكن فى الضفة الغربية كذلك، ويؤلمنا ألا تكون هناك مؤسسة دولية تقدر على وقفها، ولكن المبادرة التى قامت بها جنوب إفريقيا تستحق التحية والمؤازرة، ويجب النظر إليها على أنها إنجاز يجب البناء عليه. لقد رحبت بها حماس، ورحبت بها السلطة الفلسطينية، ويعتزم الأمين العام للأمم المتحدة عرضها على مجلس الأمن الدولى.
ما قام به العرب شعوبا وحكومات لمناصرة الشعب الفلسطينى هو أقل ما كان يتوقعه من أشقائهم فى العروبة، ولذلك فمن واجب أنصار الشعب الفلسطينى عن حق أن يواصلوا البناء على ما تحقق بهذه المبادرة، ويشددون الدعوة لوقف إطلاق النار فهو السبيل الوحيد للوفاء بالتدابير المؤقتة التى دعا لها حكم المحكمة، وبمساندة جنوب إفريقيا ــ عندما يحين موعد تقديم إسرائيل لتقريرها الأول أمام المحكمة بعد شهر ــ بمد الفريق بالوثائق وبالرأى القانونى لمواصلة هذا النضال أمام أعلى هيئة قضائية فى العالم، واتباع أساليب النضال الأخرى.