نادر كاظم نادر فعلا

سيد محمود
سيد محمود

آخر تحديث: الثلاثاء 28 يناير 2025 - 7:45 م بتوقيت القاهرة

 المتجول بين أجنحة معرض القاهرة الدولى للكتاب خلال الدورة الحالية يسهل عليه إدراك الطفرة التى شهدها الإنتاج الروائى على الصعيد العربى، وهى طفرة يقابلها تراجع مذهل فى الإنتاج الفكرى فى العلوم الإنسانية، ربما باستثناء علم التاريخ الذى يشهد أيضا طفرة مماثلة نتجت عن نمو تيار التاريخ من أسفل والحاجة إلى كتابة ما يسمى التاريخ البديل.

الواضح أن هناك حالة شغف عامة بالسرد، كما أن الغالبية بعد سنوات من نمو مواقع التواصل الاجتماعى أصبحت ترغب فى تدوين ما لديها من حكايات؛ سواء كانت تمتلك موهبة الكتابة أو لا تملكها.

يعرف مدمنو القراءة أن العثور على كتاب جيد يتأمل مظاهرة الحياة اليومية وتحولاتها صار أمرًا صعبًا لولا بضعة أسماء يقف فى طليعتها الناقد البحرينى، نادر كاظم، وهو صديق قديم عرفته أوائل الألفية الثالثة بعد عامين من حصوله على دكتوراه فى النقد الأدبى، وكان أيامها معتزا بالأثر الذى تركه فى عقله أساتذة كبار من مصر مثل الدكتور صلاح فضل، ود/ محمد بدوى، ود/ شاكر عبد الحميد، ود/ سعيد المصرى، وآخرون، وجميعهم قد ارتبط به وتعلم منه واكتسب ثقته ومحبته.

وعلى الرغم من نجاحه فى لفت أنظار كبار المشتغلين بهذا العلم إلا أنه سرعان ما تحول إلى النقد الثقافى وقدم مؤلفات ذات أهمية كبيرة ايضا منها: (طبائع الاستملاك أو استعمالات الذاكرة وكراهيات منفلتة).

ثم جاء كتابه (إنقاذ الأمل) بعد موجة احتجاجات الربيع العربى ليقدم رؤية نقدية لما جرى، داعيا إلى إنقاذ الأمل الذى تمثل فى الحركات الشبابية التى قادت هذا الحراك.

خلال السنوات العشر الأخيرة صار أكثر اهتماما بقراءة التحولات التى قادت مجتمعا مثل البحرين إلى بعض الانغلاق نتيجة حمى الطائفية، وبذل جهدا فى تفكيك وتحليل البنى التحتية التى تستجيب لهذه الحمى وتتفاعل معها.

عبر مسيرته استفاد كاظم من خبراته فى النقد الأدبى والثقافى ومن نمو الدراسات البينية التى تجمع علوما كثيرة والأنثربولوجية التاريخية وقدم مؤلفا هاما لفت الأنظار إليه بقوة وهو كتاب (لا أحد ينام فى المنامة) وبفضل هذا الكتاب تحول إلى مؤرخ له شعبية كبيرة ضمنت رواجًا لم يتحقق لأى كتاب آخر فى التاريخ، على الأقل داخل الخليج العربى.

ورغم أنه ليس كتابًا فى التاريخ بالمعنى الخالص لكنه ألهم آخرين فى مجالات إبداعية مختلفة انتبهوا لمخاطر تقلص الفضاء التعددى فى بلد له خصوصية حضارية ونسيج اجتماعى متفرد مثل البحرين.

إن ظروف نجاح مؤلفات كاظم لا تختلف كثيرا عما تحقق فى مصر  لمؤلفات الدكتور خالد فهمى التى حافظت على منهجية أكاديمية صارمة فى معالجة العلاقة بين الجسد والحداثة والقانون والضبط الاجتماعى وإدارة السلطة للأجساد من خلال مؤسسة الطب.

ميزة هذه المؤلفات أنها امتلكت لغة بسيطة وقدرة على إثارة اهتمام عموم القراء والأهم فتح الطريق أمامهم للتعاطى مع التاريخ بصورة مغايرة وهو ما فعله كاظم بالتمام والكمال.

قبل أيام صدر كتاب جديد لنادر كاظم عن دار صوفيا بالكويت والكتاب بعنوان (ساعات ديكارت رديئة الصنع، تاريخ المرض) وما أن انتهيتُ من الكتاب حتى قلت من قلبى أن البحرين التى تملك إرثا حضاريا كبيرا يجب أن تفخر بما يقدمه نادر كاظم من إنتاج ثقافى متفرد يضعه فى صدارة مفكرينا العرب المعاصرين وربما تقدم الجميع بسبب سهولة اللغة التى يكتب بها وعمق الأفكار التى يطرحها. 

وإذا كان العالم العربى قد عرف مفكرا بحرينيا آخر قبل أكثر من أربعين عاما هو الراحل محمد جابر الأنصارى الذى توفى قبل فترة وجيزة، فقد آن الأوان ليعرف القراء العرب اسم نادر كاظم فهو صاحب  إنتاج نادر بالفعل وصاحبه يتسم بعقل لامع وذهن متقد ولسان يتدفق وقلب لا يكف عن طرح الأسئلة.

يكتب نادر فى أمور أقرب ما تكون إلى ما يسمى بالتاريخ الكبير، إذ يختار موضوعًا ويحوله إلى هاجس يلاحقه ويبحث فيه عبر مسارات مختلفة تتقاطع بحيث تنتهى إلى جدارية بحث أو قطعة سجاد منسوجة من خيوط متعددة، وهكذا يلتحق فى الكتاب الجديد تاريخ المرض باحثا فى موضوع شغله من قبله آخرون، لعل أشهرهم الأمريكية سوزان سونتاج فى كتابها (المرض كاستعارة).

يقارن بين خوف الفيلسوف الفرنسى ميشيل دى مونتانى من المرض والأطباء، وبين إيمان رينيه ديكارت بالطب لكنه يأخذ القارئ فى رحلة لربط هذا الإيمان بالميكانيكا وظهور الساعات للمرة الأولى بحيث أصبح مجاز الساعة حاضرا فى معظم كتب ديكارت، فقد ربط الانضباط والدقة بالساعات.

ينطلق كاظم بعد ذلك لطرح السؤال حول أحقية الإنسان فى إدارة جسده وامتلاكه متأملا ما قد يثيره أى نقاش حول هذا الحق من مشكلات فى الدين والقانون والحركات النسوية وغير ذلك، لكنه يتأمل صور الانفصال بين الأنا والجسد نتيجة المرض أو ما يسميه الخذلان الذى يعيد ترتيب حدود الهوية بين الإنسان وجسده ويقود الإنسان للتساؤل عن معنى الوجود وعن التغييرات التى يعيد المرض تشكيلها ناظرا فى التأثيرات المتناقضة للمرض الذى قد يقود المريض للأمل وقد يقوده إلى يأس لا حدود له.

المؤكد أن هناك صعوبة كبيرة فى تلخيص الكتاب لكن ما يمكن قوله فى إيجاز أنه يمثل رحلة ممتعة رغم ثقل ما يتناوله بشأن المرض،  وفيه أيضا فضاء يتأمل تعامل المبدعين والمفكرين مع المرض ومساءلته إبداعيا، والأهم من كل ذلك أن الكتاب البديع مكتوب بلغة سردية بسيطة لا مجال فيها لتعالٍ على القارئ أو تورط فى لغة اصطلاح، فما يرغب فيه المؤلف هو أن يكون قريبا من الناس على صلة بقضاياهم منتبها لما يشغلهم فلا قيمة لعلم لا ينفع الناس.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved