أدوار أمريكية.. تتغير
جميل مطر
آخر تحديث:
الخميس 28 فبراير 2013 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
تصدر عن واشنطن هذه الأيام رسائل عن توجهات جديدة فى الاستراتيجية الدفاعية الأمريكية. يبدو بعض هذه الرسائل فى نظرى متناقضا بينما يبدو بعض آخر متكاملا ومنطقيا. كانت إدارة الرئيس أوباما قد أعدت نخب السياسة الخارجية والدفاع فى الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا لاستقبال تحول لعله من أهم التحولات التى أقدمت عليها القيادة السياسية الأمريكية منذ إنشاء حلف الأطلسى فى أعقاب الحرب العالمية الثانية. لا أعتقد أن كلمة «استدارة» التى اطلقها بعض الخبراء على هذا التحول المفاجئ فى الاستراتيجية الأمريكية استخدمت كثيرا فى كتب ووثائق وزارة الدفاع الأمريكية فى سنوات سابقة، جاء استخدامها هذه المرة لتعبر تعبيرا جيدا عن اتجاه قوى لنقل الجانب الأكبر من الاهتمام العسكرى لأمريكا فى الخارج من القارة الأوروبية إلى منطقة الباسيفيكى وشرق آسيا. كما أننى لا أذكر انه على امتداد عقود ثارت ضجة فى أوروبا بسبب تغيرات فى توجهات الاستراتيجية الأمريكية كالضجة التى ثارت بسبب هذا التحول، إذ جاءت فكرة نقل التركيز الاستراتيجى من الأطلسى إلى الباسيفيكى فى ظروف هى الأسوأ منذ الظروف التى أحاطت بإقامة سور برلين، وهى أيضا من بين الأسوأ فى تاريخ الأزمات الاقتصادية فى العالم الرأسمالى. ومع ذلك، يحق للمدافعين عن مشروع نقل التركيز فى الاستراتيجية الأمريكية القول إنه رغم سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية فى أوروبا، ورغم حالة القلق الشديدة والتوتر التى تسود دول جنوب أوروبا وتهدد استقرارها الداخلى، إلا أن أوروبا تبقى آمنة عسكريا لا يهددها خطر خارجى مباشر، كالتهديد من الشرق فى سنوات الحرب الباردة. كذلك تبقى الحقيقة ناصعة وهى أن القارة الأوروبية لم تنعم خلال مئات السنين بفترة سلام طويل بين أقطارها كالفترة الراهنة حيث لا تمثل أية قوة أوروبية تهديدا لدولة أوروبية أخرى.
•••
هدوء وسلام وأمن إقليمى فى أوروبا يقابله صراعات ثنائية متصاعدة بين دول شرق آسيا، وصعود خطير للمشاعر القومية فى عديد من دول القارة، وعدم تكافؤ بين دول تتقدم بسرعة ودول تتقدم بتدرج وبطء ودول انتكست فيها عملية التنمية. هنا يجسد «العامل الصينى» السؤال الجوهرى عن مستقبل الأمن والسلام فى آسيا، وهو السؤال الذى يعكس واقع الحال فى توازن القوى داخل مؤسسات الإقليم وسباق التسلح بين الصين واليابان والسرعات المتفاوتة التى تقفز بها الصين اقتصاديا واجتماعيا وعلى صعيد السياسة الداخلية وأخيرا وليس آخرا وضع الاعتماد المتبادل بين الولايات المتحدة والصين.
•••
يهمنى بشكل خاص فى هذه المرحلة ما يعكسه «العامل الصينى» فى منظومة العلاقات داخل مجموعة الآسيان، التى تضم عشر دول، حيث تتعدد الشكوك وتتعمق حول طموحات الصين ونواياها فى منطقة جنوب وجنوب شرق آسيا. لفت نظرى بشكل خاص فى الآونة الأخيرة، ما دار فى اجتماع القمة الذى عقد فى بنوم بنه لدول المجموعة، عندما خضعت حكومة كامبوديا، الدولة المضيفة ورئيسة المؤتمر، للإرادة الصينية فأحبطت مساعى فيتنام والفيليبين لإثارة قضايا الجزر المختلف عليها فى بحر الصين الجنوبى. ويزداد القلق داخل المجموعة بانتقال الرئاسة إلى بروناى، الدولة الصغيرة، التى يسكنها نحو نصف مليون مواطن، والتى لا تملك إرادة الوقوف ضد العملاق الصينى، وبعدها تنتقل الرئاسة إلى ميانمار، الدولة التى تشترك فى حدود بالغة الحساسية مع الصين، والأضعف والأفقر على الإطلاق. معنى هذا أن الظروف الإقليمية فى إطار مجموعة الآسيان تزيد احتمالات أن تهيمن الصين على المنطقة وسياساتها خلال العامين القادمين على الأقل.
•••
من ناحية أخرى، استمر التوتر متصاعدا بين الصين واليابان بسبب الخلاف على ملكية مجموعة جزر تقع فى بحر الصين الشرقى. المشكلة ليست فى الجزر وملكيتها، ولكن فى استغلال الطرفين لها لإثارة النعرات القومية التى اشتهرت بها الدولتان عبر التاريخ وخلفت تراثا هائلا من العلاقات المتوترة ومذابح وحروب مدمرة. أما التطور المثير فهو المتعلق بتسريب معلومات عن نية الحكومة اليابانية ادخال تعديلات جوهرية فى الدستور اليابانى، بحيث يصبح من حق اليابان الاحتفاظ بجيش كبير. المعروف ان الدستور اليابانى الذى وضعته الولايات المتحدة فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، كما فعلت مع ألمانيا وكما تفعل منذ ذلك الحين مع دول صغيرة عن طريق اتفاقيات ثنائية وثلاثية مثل الاتفاقيات الملحقة بالصلح المصرى ــ الإسرائيلى، هذا الدستور يفرض على اليابان ألا تحتفظ بقوات برية وبحرية وجوية وإمكانات قتالية أخرى، وأن تكتفى بقوات رمزية تحمل اسم قوات الدفاع الذاتى.
قد لا يعرف الكثيرون، خارج النخب المطلعة على دفاعات اليابان، ان الحكومات اليابانية المتعاقبة لم تحترم هذا النص، وأن مسئولين أمريكيين يعترفون بأن القوات العسكرية اليابانية وأغلبها متقدم تكنولوجيا إلى حدود قصوى تستطيع الصمود فى وجه أى هجوم صينى يشن فجأة على الجزر المتنازع عليها. بل وان أى خطة دفاع أمريكية فى شرق آسيا لابد أن تضع فى حسابها القدرة العسكرية اليابانية. ولليابان مشكلة مع كوريا الشمالية بسبب الإصرار الغريب فى بيونج يانج على تطوير أسلحتها النووية وصواريخها الباليستية بعيدة المدى، ولن تفكر اليابان فى توجيه ضربة استباقية لمواقع هذه الأسلحة قبل أن تطمئن إلى أن الصين لن ترد دفاعا عن كوريا الشمالية حليفتها منذ أكثر من نصف قرن.
•••
هذا هو الاطار الذى تتحرك فى داخله أوضاع شرق آسيا وجنوبها، خطة أمريكية هدفها المعلن التركيز على شرق آسيا فى خطط الدفاع الأمريكية، وتصعيد فى الموقف السياسى الصينى المعادى لليابان، وتجربة كوريا الشمالية الجديدة لتفجير سلاح نووى، ووصول حكومة يمينية متطرفة فى النزعة القومية إلى كراسى الحكم فى طوكيو، وتوابع تصريح رئيس وزراء اليابان الذى أدلى به قبل سفره من طوكيو متوجها إلى واشنطن وجاء فيه ان «الصين تريد فتح شجار مع اليابان وغيرها لإثارة الغرائز القومية لدى الشعب الصينى ودفعه للالتفاف حول الحزب والقيادة، وقرب اعتلاء الحكم فى بكين جيل جديد وسط مظاهر احتجاجات اجتماعية واسعة، وحملة إعلامية وسياسية أمريكية تحمل إلى الأوروبيين خطة أوباما لإنشاء منطقة تجارة حرة مع أوروبا.
فى هذا الإطار نفسه جرت المباحثات بين رئيس وزراء اليابان والرئيس أوباما. كان واضحا من التعليقات والنقاشات الدائرة فى واشنطن أن الطرفين لديهما الكثير مما يجب أن يقال وبوضوح. أوباما غير سعيد بتولى صقر من صقور اليابان وزعيم يمينى متطرف إدارة شئون اليابان فى هذه الظروف المتوترة فى شرق آسيا. وشينزو آبى رئيس الوزراء اليابانى غير سعيد بتطور العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، ويطالب بدعم أمريكى لقرار اليابان تعديل دستورها وهو التعديل الذى قد يلغى تعبير قوات الدفاع الذاتى لصالح عبارة تعكس النية فى إقامة جيش يليق بدولة كبرى. أراد شينزو آبى اليابانى أن ينقل لأمريكا حقيقة سائدة فى اليابان عبر عنها أستاذ فى جامعة هوسى اليابانية بقوله «كثير من المحافظين يخشون أن تصبح الصين أكثر أهمية للأمريكان من اليابان».
•••
أتصور أن هذه المحاولات من جانب رئيس الوزراء اليابانى وزعماء فى الفيليبين وفيتنام وربما فى أستراليا وإندونيسيا وتايوان وكوريا الجنوبية والهند، لن تفلح فى توريط الولايات المتحدة فى نزاعات هذه الدول مع الصين. كان واضحا خلال زيارة شينزو لواشنطن ان مستشارى أوباما تعمدوا ألا تظهر لقاءاته مع رئيس الوزراء كما لو أن الطرفين يعدان لحلف أو خطة ضد الصين. أتصور أن إدارة أوباما لا تريد الايحاء للصين بأن أمريكا تتمنى أو تسعى لأن تتحول علاقاتها التنافسية مع الصين إلى علاقات صراع وسباق على الهيمنة. أقصى ما تتمناه أمريكا، فى ظل قيادتها الراهنة وتوجهات المؤسسة العسكرية الأمريكية، هو أن تلعب فى شرق آسيا والباسفيكى الدور الذى كانت تلعبه بريطانيا العظمى مع أوروبا فى القرن التاسع عشر، يقول زيبنيو برجنسكى، مستشار الرئيس كارتر، فى مقال نشرته قبل أسبوع صحيفة كريستيان ساينس مونيتر ان القيادة السياسية الأمريكية يجب أن تمنع أى انزلاق أمريكى نحو المواجهة مع الصين. يعتقد، وبحق، أن كلا الطرفين الصينى واليابانى وأطراف دولية أخرى معرضة لاتخاذ قرارات غير سليمة إذا تركت نفسها لضغوط وتوترات متزايدة تدفع إليها حالة انحدار ملحوظ فى قوة دولة عظمى من ناحية وحالة صعود ملحوظ ايضا فى قوة دولة ساعية للعظمة من ناحية أخرى. يشير أيضا إلى أهمية أن تكون الولايات المتحدة واعية لخطورة ظاهرة تفاقم النزعات والنزاعات القومية فى آسيا واحتمالات سباق عنيف بين دول شرق آسيا للحصول على المادة الخام والمياه والنفوذ الدولى.
•••
بعض صور مستقبل الدور الأمريكى أوضح من غيرها. أتصور أن صورة الدور فى أمريكا اللاتينية وصورة الدور فى الباسيفيكى وشرق وجنوب شرق آسيا هما الأوضح على الإطلاق تليهما صورة الدور فى أوروبا التى ربما تدخل عليها تعديلات جوهرية، بينما أخذت صورة الشرق الأوسط تتضح شيئا فشيئا لتكشف عن استعدادات جارية لفك ارتباطات مع دول وتيارات فى الإقليم تسببت فى خسائر باهظة تكبدها الاقتصاد الأمريكى وأخطاء فادحة ارتكبتها العسكرية الأمريكية ورهانات ضخمة خسرتها الدبلوماسية الأمريكية.